لماذا نحن فقراء


قد يتساءل البعض عن السبب وراء تكرار حديثي عن الفقر في البادية الجنوبية , فبعد مقالاتي - أمراء جائعون و تجارة الفقراء – بدى واضحا من خلال التعليقات إنقسام المعلقين إلى طرفين : الاول ذهب إلى التعاطف المصحوب بالتساؤل عن الأسباب وراء هذه الحالة والطرف الآخر أصر على اللوم المباشر مؤكدا أن عدم الرغبة في التعليم والعمل هما السبب الرئيس وراء حالة الفقر التي يعيشها البدو , لذلك أردت في هذا المقال أن أذكر الأسباب الحقيقية التي سببت هذه الحالة الشمولية للفقر والبطالة التي يعيشها أبناء البادية الجنوبية عموما وأبناء قبيلة الحويطات تحديدا .

بدأت القصة في بدايات القرن الماضي عندما سأل أحدهم الضابط الإنجليزي ( كلوب ) القادم من العراق لماذا جئت إلى الأردن ؟ فأجابه ابو حنيك - لقب الضابط كلوب – لم آت من أجلكم جئت من أجل الحويطات .

وبالطبع كانت القاعدة الإنجليزية ( Divide and Rule ) أي فرق تسد هي الوسيلة الأنجح في التعامل مع أبناء هذه القبيلة , فبدأ كلوب بإستقطاب شيوخ ووجهاء القبيلة وأقنعهم بإلحاق أبناءهم بالجيش فقامو بتوجيه أبناء القبيلة للإنخراط في الجيش وكان كلوب يعتمد إسم العشيرة بالتعريف عن الجندي بالوثائق الرسمية وهكذا بدأ إسم القبيلة " الحويطات " يختفي من الوثائق الرسمية لابناء القبيلة , تزامن ذلك مع مشروع توطين البدو وكان السبب وراء هذا المشروع تحديد مواطن تواجد البدو الرحل وتغيير نمط حياتهم نحو الزراعة والخدمة العسكرية , بدلا عن حياة الرعي التي إعتادو عليها وأتقنوها لمئات السنين .

بعد ذلك تم إصدار قانون الوصاية على البدو تحت مبررات عديده أهمها مساعدة البدو الرحل على التحول إلى الحياة المدنية حالهم كحال المواطنين الآخرين , وكان من أهم نتائج هذا القانون بروز مصطلح البادية الجنوبية كمكان تطبيق هذا القانون بصفتها المساحة التي تتوزع بها التجمعات السكانية التابعة لمشروع توطين البدو ثم ضُمَّت تلك المناطق للمحافضات القريبة منها رغم بُعدها عن مراكز تلك المحافظات , بعد ذلك قام الجيش بفتح مدارس عسكرية تحت إسم " مدارس الثقافة العسكرية " بإشراف مباشر وبإدارة تابعة له وعُزلت تلك المدارس عن متابعة وإشراف وزارة التربية والتعليم .


ومع عودة الحياة الديمقراطية للأردن عام 1989 حُرم أبناء البدو من الإنخراط الفعلي في العملية الإنتخابية الوطنية وحُصر ترشحهم وتصويتهم في دائرة إنتخابية مغلقة , وعوملو كأقليات تعيش على أطراف المجتمعات المدنية ولم يسمح لأبناء البدو بالترشح في العاصمة عمان في حين مُنح جميع الأردنيين هذا الحق بشرط إقامتهم فيها .

ومع بداية القرن الواحد والعشرين بدأ التحول إلى تقسيم تجمعات البدو السكانية بحسب مستويات الفقر فيها فأصبحت تسمى جيوب الفقر والمناطق الأقل حظا , وكان الهدف الحقيقي وراء تلك التسميات هو توجيه الإعلام الخارجي إلى تلك المناطق وبالتالي الحصول على المساعدات والمنح الخارجية التي لا يصل منها إلى سكان تلك المناطق غير بعض الطرود والقليل القليل من المساعدات .

بعد هذه المقدمة التاريخية أُقدم تلخيصا للأسباب الرئيسية لحالة الفقر والبطالة التي يعيشها البدو في البادية الجنوبية مع ملاحظة إمكانية قياس هذه الأسباب على مناطق اُخرى في الأردن :


أولا : - توجيه أبناء البدو إلى الإنخراط في الجيش وعدم متابعة تعليمهم وبالتالي عزلهم عن الحياة المدنية

والسياسية وتكريس طاقاتهم لخدمة وحماية مؤسسة الحكم وضمان ولاءهم لها حتى بعد انتهاء مدة
خدمتهم بسبب إعتماد معظمهم على الراتب التقاعدي وذلك لانهم بالغالب لا يملكون مؤهلا علميا
أو حرفة يعتمدون عليها وبالتالي إنحصار حياتهم ضمن دخلهم الشهري الضئيل .

ثانيا : - تسكين البدو في مناطق غير حيوية بعيدة نسبيا عن مراكز المحافظات وتحويل مراعيهم الطبيعية إلى

خزينة الدولة تحت إسم ( الأراضي الأميرية ) ثم إقامة مشاريع صناعية ضخمة فيها دون أعطاء أي
ميزه لهم أو لمناطقهم سواء بالعمل أو دعم للتعليم أو حتى تطوير البنية التحتية .

ثالثا : - فتح مدارس الثقافة العسكرية في مناطق تواجد البدو ومن أهم ملامح هذه المدارس ثلاث وجبات يومية

يتناولها الطالب في ( الميس ) التابع للمدرسة والطابور الصباحي واللباس العسكري للطالب والمعلم
بالإضافة إلى الإنضباط العالي ولعل أبرز ما يميز تلك المدارس نتائج إمتحان الثانوية العامة الذي غالبا
ما يتم إختصارها بعبارة ( لم ينجح أحد ) والنتيجة الطبيعية لخريج تلك المدارس هو الذهاب للجيش فهو
في الحقيقة جندي منذ كان عمره خمس سنوات .

رابعا : - العزل السياسي الذي طبِّق من خلال الدوائر الإنتخابية المغلقة ومنع أبناء البادية من الترشح خارج

مناطقهم وأيضا منع الآخرين من الترشح لديهم وتقديم الرمزية على الكفاءة وبالتالي حصر ممثلي تلك
المناطق بنوعية محدده من النواب وظيفتهم الأساسية ترسيخ سياسات التجهيل والتهميش بين ابناء البدو
وربطهم بمؤسسة الحكم بعلاقة من الولاء غير المشروط والغيرمبنيه على مبدأ تبادل المصالح , علاقة
يعبَّر عنها بزيارات موسمية خالية من الدسم , فلا مشاريع ولامستشفيات ولامنح ولا وظائف ترافقها
حالها كحال القائل العرس عندنا والنقوط عندغيرنا .

خامسا : - تحول معاناة الفقر والبطالة إلى مصدر لجمع الأموال من المؤسسات العالمية لصالح مؤسسات محلية

ذات غطاء رسمي وظيفتها الأساسية رصد الفقر وتوثيقه وليس محاربته , حالها كحال المصور
الأوروبي الذي حصل على جائزة عالمية لصورة التقطها لطفل إفريقي أنهكه الجوع وبجانبه نسر ينتظر
موته ليأكله فأيهما كان الأهم للمصور حياة الطفل أم صورته ؟

أخيرا أقول إن فقرالبدو ليس ذنبهم وليس خيارهم انه نتيجه لعملية ممنهجه بدأت بتجريدهم من تاريخهم ثم من اراضيهم ثم مراعيهم ثم فُرض التجهيل عليهم ثم عزلهم سياسيا عن الآخرين وبالنهاية أصبح فقرهم سلعة نصيبهم منها القليل من الفتات والكثير الكثير من اللوم وسوء الفهم , لماذا نحن فقراء ؟! إسألوا كلوب .