"أولاد حرام"

لم تعِ عريب ما يحدث، وإنما أحست بشيء يركل جسمها، لكنها فهمت من الصراخ الذي هز كينونتها، " قومي يا بنت الحرام"، أن رجال الأمن انقضوا في عتمة الليل لفض اعتصام الأيتام من على الدوار الرابع .

كان ذلك في أول ليالي رمضان فتحول شهر الإحسان إلى فصل جديد من مأساة من نبذ المجتمع لهم وادانتهم منذ لحظة ولادتهم.

"بنات حرام" و" أولاد حرام "، هي صفات التصقت بمن تخلى عنهم أباء و أمهات، وتٌرِكَ معظمهم، وكأنهم مجرد كتل لحم ضئيلة ، على أبواب مراكز الأيتام أو الجوامع، ومباشرة تم تصنيفهم على أنهم "لقطاء" ، تلك الكلمة البغيضة التي تلاحقهم في حياتهم والى مماتهم إلى الأبد - فهي حكم بالإعدام النفسي والاجتماعي من دون أي سبب من صنع أيديهم.

لم تكن المرة الأولى التي أفاق رجال الأمن عريب "بأرجلهم"، فمنذ خروجها من مركز شهير لإيواء الأيتام، وهي دائمة البحث عن زاوية تريح فيها جسدها المنهك من الجوع والسير على الطرقات، بما في ذلك محاولة النوم أمام المركز الذي لم تعرف غيره "بيتا يحميها"، أو هكذا أرادت عريب صالح غسان جبر أن تصدق، لتجد نفسها وراء القضبان مرة تلو الأخرى.

أمضت الفتاة، التي بلغت السادسة والعشرين من عمرها معظم السنوات السبع الأخيرة في معتقل الجويدة، وأضحت من أصحاب السوابق، مثلها مثل الكثير من أقرانها الذين رفضهم المجتمع الذي يرفض إعطاءهم الفرصة في الحياة، فرجل الأمن الذي يرميهم بشتيمة "أولاد الحرام"، لا يقوم إلا بتنفيذ حكم المجتمع عليهم - فلا أحد منا بريء سواء الذي يتلفظ بالنعت القبيح أو الذي لم يحاول على مدى عقود أن يحارب ليلغي جملة "أولاد حرام" من قاموسنا.

حكاية عريب، وإن اختلفت في بعض تفاصيلها،هي حكاية كل "مجهول النسب"، وهي من التعبيرات الألطف التي تلصق بهم، فالكثير منهم يجد نفسه من أصحاب السوابق، وبعض الفتيات ينتهي في بارات الليل، أو كما يقول علاء، الذي أصبح الناطق باسمهم، "أضحى بعض أخواتنا أدوات تلهية لمن يملك المال من الرجال عرباً وأردنيين."

وجدت نفسي محاطة ظهر يوم الأحد بمجموعة من الأيتام، الذين انتقلوا إلى دوار عبدون، كنت أحاول النظر في عيونهم لفَهِم معاناتهم، فرأيت دليل جريمتنا في نظراتهم.

قادني علاء علي شفيق الطيبي، الذي يفاجئ كل من يلتقيه بوعيه بعمق التداعيات النفسية لحالته وحالة إخوانه وأخواته، كما يشير إلى الأيتام الآخرين، وبفهم ينافس به أساتذة علم الاجتماع، إلى شجرة على الدوار لنحتمي بظلها، وما أن بَدأت بالأسئلة حتى تدافعت الروايات، لأنهم كغيرهم من المهمشين والمظلومين، في توق دائم إلى رواية حكايتهم، التي شوهتها وزَيَفتها القوى التي صادرت حقوقهم - ولا أعني المؤسسات الرسمية فقط بل المجتمع بأكمله.

جلست أستمع إلى قصة للشقيقين محمد وعلي مضر محمود رمضان، اللذَين أصرَّا على ذكر اسميهما الرباعي، وهو إصرار عند الأيتام الذين يعرفون أسماء عائلاتهم وكأنهم يحاولون به استعادة " شرعية " وجودهم المسلوبة، ويواجهون المجتمع والدولة الذين أعطيا مشروعية أخلاقية وقانونية لإنكار شرعية حياتهم.

يقول الأخوان رمضان، أن والدهما توفي وهما أطفال ، فأجبرت العائلة والدتهم على الزواج والانتقال إلى الضفة الغربية، وإيداع الولدين المصدومين إلى مركز للأيتام، وبعد أعوام طوال نجح الأخوان بالاتصال بأهل أمهم ولقائها، لكن اللقاء الحلم حطم ما بقي هناك من أمل، فصحيح أن الأم شرحت، بأن ما حدث كان رغماً عنها، لكن لم يجدا الحنان والحب في وجهها وفي نبرة صوتها، وكأنها لم تلدهما و لم تكن معهما في أوائل سنواتهما الغضة.

انتظرَ محمد بعد خروجه من مركز الأيتام، تحقيق وعد بالعمل في صفوف الدفاع المدني من دون جدوى، فاتجه إلى السرقة، نعم السرقة!

طبعاً لا يحق لي الصدمة ، فماذا كنت أنتظر عندما تسد الطرق في وجه المنبوذين؟ فجان فالجان ليس مجرد شخصية خيالية ابتدعها الروائي والفيلسوف الفرنسي فيكتور هوجو، فالملايين من الفقراء أمثال فالجان يجولون شوارع عالمنا يومياً، يلجأون إلى سرقة رغيف الخبز، ومنهم من يجد نفسه غائصاً في عالم الإجرام بأنواعه.

تمعنت في وجه الشاب الوسيم الواقف أمامي فلم أجد أثرا للخبث والجريمة، فقلت له : " أمن الممكن أن أجدك داخل بيتي؟"، هز رأيه بالإيجاب وكانت عيناه مفعمتين بالتحدي، فتابعت قائلة: "أظن بأنني سأرتبك تماماً من الخوف منك واتعاطف معك "، فأجابني بسرعة: "أنا لا أقتل".

صَدَقّته، لكنني ارتعبت من اللحظة التي قد يتحول بها شاب مثله إلى قاتل – فثوان معدودة تفصل بين الذعر والقتل.

"أنا ابن غير شرعي"، أعلن شاب أسمر فجأة، " لكنني استطعت الوصول إلى أمي التي سلمتني لمركز للأيتام، وهي ساعدتني بإيجاد أبي".

الأب المفقود صرح بفلذة كبده: روح يا ابن ال....."، ولكن ذلك لم يمنعه من السعي لمحاولة جعل الرجل القاسي يعترف بالحق القانوني بأبوته له ، ولم يجد الحضن الدافئ عندما حاول التقرب من أمه.

هذه بعض من حكايات مآسيهم ووصمة عارنا .