من يدفع ثمن الأزمات..!

لن أضيف جديداً حين أقول أن الطبقة العاملة من أكثر الفئات الاجتماعية تضررا من الأزمات المالية والاقتصادية التي تواجه النظام الرأسمالي، لكن الاعتقاد السائد أن المجتمعات الرأسمالية بشرائحها الاجتماعية كافة متضررة من هذه الأزمات، وإن الخروج من الركود الاقتصادي والدخول في مرحلة الانتعاش توفر مناخا ملائما لتحقيق الأرباح وتكديس الثروة وتراكم رأس المال. بالوقوف على احدث المعلومات التي تفيد أن الفقراء وحدهم يدفعون الثمن والأثرياء يحصدون الارباح الخيالية، فقد كشفت التقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية المتخصصة ان عدد أثرياء العالم ارتفع العام الماضي الى 11 مليون شخص، وقد بلغت ثروة الأغنياء 42 تريليون دولار، اي أكثر من اقتصادات الولايات المتحدة الأميركية والصين وأوروبا مجتمعين، وقد ازدادت هذه الثروة في عام 2010 بنحو 3.7 تريليون دولار، وفي عام 2009 بنحو 6.2 تريليون دولار. ويشكل أثرياء الولايات المتحدة واليابان وألمانيا نحو نصف إجمالي أثرياء العالم.

وفي المقابل حمَلت الحكومات الرأسمالية الفئات والشرائح الاجتماعية من فقراء ومتوسطي الدخل الجزء الأعظم من تكلفة الأزمة المالية والاقتصادية، وقد تم ذلك عن طريق اجراءات التقشف الواسعة التي نفذتها، بدءا من زيادة الضرائب وتقليص الخدمات الاجتماعية، ورفع سن التقاعد، اضافة الى اختفاء ملايين فرص العمل وفقدان الوظائف. وفي احدث تقرير عن تراجع فرص العمل في فرنسا، قرار شركة البيجو بفصل ثمانية الاف عامل من العمل الأسبوع الماضي، وقد جاء القرار ليزيد من آلام ومعاناة العمال وأسرهم بسبب الحرمان من العمل والعيش الكريم. ان من ابسط حقوق الانسان حق العامل بالعمل، وقد أصبحت النقابات العمالية عاجزة عن وقف هذه الاعتداءات على العمال ومنع هذه الإجراءات التعسفية على الرغم من التعبير عن الغضب ورفض القرار. وقد ارتفعت معدلات البطالة في البلدان الراسمالية عامة وفي منطقة اليورو خاصة لتصل إلى اكثر من11%، وهي أعلى نسبة وصلت اليها منذ تطبيق الوحدة النقدية " اليورو" ليصل إجمالي عدد العاطلين من العمل إلى حوالي 17.5 مليون عامل.

وقد فقدت الطبقة العاملة جزءا مهما من مكاسبها الاقتصادية والاجتماعية التي حققتها بنضالاتها السياسية والنقابية عبر عشرات السنين، التي راكمت مكاسب اقتصادية واجتماعية مهمة خاصة في البلدان المتقدمة، مقارنة مع البلدان النامية، وذلك كي تتجنب الراسمالية احتدام الصراع الطبقي الذي قد يفضي الى ثورات اجتماعية خاصة في مرحلة نهوض الحركات الثورية والاشتراكية في أواسط القرن الماضي. وفي ضوء المتغيرات الدولية وتراجع دور الدولة الاجتماعي، واتساع معدلات البطالة، وتعريض الطبقة العاملة للاملاق المطلق، ما يؤدي الى بروز اتجاهات سياسية جديدة للطبقة العاملة تمكنها من انهاء الاستغلال ، وتحقيق العدالة الاجتماعية.

ان الرأسمالية المتوحشة " نيوليبرالية " سخرت أجهزة الدولة كافة، والمنجزات العلمية والإنسانية لصالح طبقة طفيلية، ادت الى إفقار وتجويع وإبادة مئات الملايين من البشر، في الحروب والأوبئة والأمراض وسوء التغذية، واختفاء فرص العمل واتساع جيش العاطلين من العمل، من اجل تمركز الثروة وتكديسها بين أيدي حفنة من الأثرياء، بفضل القوانين المعادية للإنسانية، وعلاقات الإنتاج السائدة في النظام الرأسمالي المبنية على القهر والاستغلال، وعرّضت الاقتصاد العالمي لأخطر الأزمات غير آبهة بنتائج سلوكها المتوحش، والغريب. ان النظام العالمي بدلا من ان يوجه أصابع الاتهام للمضاربين والمسؤولين عن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، قدم لهم المكافآت والتعويضات على حساب الدولة والمجتمع بضخ مليارات الدولارات لإنقاذ شركات عملاقة آيلة للسقوط معرضا دولا للافلاس.

إن الأزمة المالية والاقتصادية التي تفاقمت بفضل السياسات المتحيزة والقرارات الاقتصادية التي ترجمت بقوانين وأنظمة وتعليمات أصبحت مرشحة للتصعيد ومن غير المتوقع السيطرة عليها في وقت قريب، فقد حذر صندوق النقد الدولي من أن الاقتصاد العالمي يتعرض لمخاطر كبيرة ناتجة من أزمة الديون الأوروبية والإفراط في التقشف المالي في الدول الغنية بعضها. كما حث الصندوق على تحرك جماعي لخفض البطالة، وأشار بشكل خاص إلى أن أزمة منطقة اليورو تبقى أكبر تهديد مباشر للاستقرار المالي.
لقد نجح النظام الرأسمالي عن طريق تجربته الغنية من تطوير أساليبه في التأثير فكريا وسياسيا على المجتمعات المحلية وتزييف ثقافته باستخدام احدث وسائل الإعلام وتكنولوجيا المعلومات، لحصر نتائج صناديق الاقتراع بين ثنائية أحزاب السلطة في النظام الرأسمالي بغض النظر عن مسميات هذه الأحزاب. وقد شهدت الآونة الأخيرة رفضا واضحا على هذه السياسات في الشارع عن طريق المسيرات والإضرابات العمالية في أوروبا وأميركا وما عرف بحركة " احتلال وول ستريت" التي ظهرت في مدينة نيويورك وانتشرت في مختلف مدن العالم.. ما يبشر في بزوغ عصر جديد.