ما زالت النفوس والخواطر ثائرة على إصرار حكومة الطراونة ومن خلفها مجلس النواب على الإبقاء على الصوت الواحد كنظام انتخابي ستجرى بموجبه الإنتخابات النيابية المقبلة، والتي يصر جلالة الملك على إجرائها قبل نهاية العام الحالي. فالأردنيون من شتى الأصول والمنابت يجمعون الآن أكثر من أي وقت مضى على رفض نظام الصوت الواحد، بعضهم عن فهم ووعي وإدراك بعيوبه وسلبياته، بينما بعضهم الآخر جراء ما كتب عنه وتداولته وسائل الإعلام من نقد وتجريح لهذا النظام الانتخابي.
لكن يبقى التساؤل الأهم الذي لم يحاول أحد الإجابة عليه هو سبب نجاح نظام الصوت الواحد في عدد من الديمقراطيات الأوروبية في إفراز حكومات برلمانية منتخبة، وتداول سلمي للسلطة بين الأحزاب السياسية، وعدم نجاحه في الأردن. ففي بريطانيا مثلا، نجد أن نظام الصوت الواحد قد ترسخت جذوره وتعمقت باعتباره أكثر الأنظمة الانتخابية تحقيقا للديمقراطية النيابية، حيث باءت الجهود التي بذلتها حكومة الائتلاف الحالية لتغييره واستبداله بما يعرف بنظام التصويت البديل أو التصويت التفاضلي بالفشل، وذلك في الاستفتاء الأخير الذي جرى العام الماضي في بريطانيا على تغيير النظام الانتخابي. فقد صوت البريطانيون لصالح الإبقاء على نظام الصوت الواحد وعدم تغييره إلى نظام التصويت البديل الذي يقوم على أساس قيام الناخبين بإدراج المرشحين في قائمة بترتيب الأفضلية، بحيث إذا لم يحصل أي من المرشحين على 50% من أصوات الناخبين، فإنه يتم استبعاد المرشح الذي جاء في ذيل القائمة، وتوزع الأصوات التي حصل عليها على باقي المرشحين، وتتكرر هذه العملية الى أن يحصل أحد المرشحين على 50% من الأصوات، فيفوز في الانتخابات.
إن السبب الرئيسي وراء نجاح نظام الصوت الواحد كنظام انتخابي في بريطانيا والذي يطلق عليه مصطلح (First hit the post) وعدم نجاحه في الأردن هو التطبيق الخاطأ لهذا النظام الانتخابي في الأردن. فنظام الصوت الواحد يقوم على عنصرين أساسيين هما إعطاء كل ناخب صوتا واحدا، وتقسيم الدولة بشكل كلي إلى عدد من الدوائر الانتخابية مساو لعدد أعضاء المجلس النيابي المراد انتخابهم، بحيث يكون عدد الناخبين في كل دائرة متساويا مع عدد الناخبين في الدوائر الأخرى. فتقسيم الدوائر الانتخابية في نظام الصوت الواحد يقوم على أساس التعداد السكاني وليس على أساس المساحة الجغرافية، بالتالي فمن الممكن لدائرة انتخابية أن تضم مساحات شاسعة بينما تكون دائرة انتخابية أخرى هي عبارة عن حي في مدينة.
أما الذي يحدد عدد الناخبين في دائرة انتخابية ما فهو عدد الناخبين الكلي على عدد المقاعد في المجلس النيابي، بحيث تعكس هذه النسبة التمثيل النسبي الفعلي، ويتم من الناحية النظرية على الأقل انتخاب عضو المجلس النيابي بنسب متكافئة في كل دائرة انتخابية.
أما في الأردن ومنذ عام 1993، فقد بدأ تطبيق نظام الصوت الواحد ولكن بشكل مغاير تماما. فقد كانت قوانين الانتخاب التي تصدر تقرر إعطاء صوت واحد لكل ناخب، إلا أنها لم تكن تقسم الدولة لدوائر انتخابية بعدد النواب المطلوب انتخابهم، بل كانت تقسم الدولة إلى دوائر مختلفة الحجم بحيث تفرز كل دائرة انتخابية عدا معينا من النواب. وقد اعتمدت قوانين الانتخاب الأردنية المتعاقبة على التقسيم المناطقي للدوائر الانتخابية وليس على التقسيم المعتمد على عدد الناخبين، وذلك بهدف ضمان تمثيل عادل للنسيج الاجتماعي للدولة، وتمثيل كل المناطق في البرلمان الأردني من خلال عدم إهمال أية جهة أو منطقة معينة.
ورغم أن هذا التعديل الجوهري على نظام الصوت الواحد في الأردن قد تمكن من توفير تمثيل برلماني للمناطق النائية التي لا تملك عددا كافيا من الناخبين وبنسب تتناسب مع عدد القاطنين في تلك المناطق، إلا أنه وفي الوقت نفسه قد كسر قاعدة مهمة في الانتخابات الديمقراطية والتي تتمثل في ضرورة أن يكون الممثلون قد تم انتخابهم إلى المجلس النيابي بعدد متقارب من الأصوات. فعندما يكون عدد المرشحين في دائرة انتخابية كبيرا، فإن ذلك سيؤدي إلى تشتت الأصوات ونجاح مرشحين بعدد قليل جدا من الأصوات مقارنة مع من يحق لهم التصويت في الدائرة الانتخابية، وهو ما يجعل من ذلك النائب المنتخب لا يمثل حقيقة المنطقة الانتخابية التي يمثلها. في المقابل، فقد ينجح مرشحون آخرون بعدد كبير جدا من الأصوات، وهو ما أفرزه التطبيق العملي لنظام الصوت الواحد المعدل في الأردن، حيث أن بعض المرشحين قد وصلوا إلى البرلمان بما يزيد على ألف صوت فقط، في حين حصل مرشحون آخرون على ما يزيد على 20 ألف صوت.
ولضمان تمثيل أطياف المجتمع في البرلمان الاردني، فقد تم تخصيص مقاعد انتخابية للأقليات من دون الاعتماد على مناطق سكنهم، بحيث تم احتساب عدد الممثلين لهم بالبرلمان بالاعتماد على عدد الناخبين من تلك الأقلية العرقية. فأوجد قانون الانتخاب مقاعد للمسيحيين في دوائر انتخابية معينة، ومقاعد للشيشان وآخرى للشركس والذي يتم الانتخاب فيها بغض النظر عن التركيبة الكلية للدائرة الانتخابية. فالتنافس على هذه المقاعد يكون بعدد الأصوات التي يحصل عليها المرشح كأعلى أصوات من المتنافسين على ذلك المقعد الانتخابي الذي يمثل أقلية معينة، وهو ما أثار زوبعة من التساؤلات حول مدى دستورية مثل هذا الإجراء الذي يخل بأسس الديمقراطية والتي تفترض المساواة وعدم التفريق بين المواطنين على أساس العرق والنوع والجنس.
كما أنه ونظرا لأن الدوائر الانتخابية هي دوائر لأكثر من مرشح واحد، فإن التصويت على مقاعد الأقليات لا يتم فقط من الفئة العرقية أو الدينية المخصص لها والتي ينتمي إليها المرشح، ولكن من قبل كل الناخبين في الدائرة الانتخابية بغض النظر عن العرق والدين وبقاعدة الصوت الواحد للمرشح الواحد. وهنا ينتج تعارض بين المقصود من تمثيل الأقليات في البرلمان و ما يتم التعامل معه فعليا، فقد يحصل مرشح ما على أكثرية أصوات الأقلية التي يطمح إلى تمثيلها، لكنه لا يتمكن من الفوز بالمقعد لأن المرشح الخصم قد حصل على عدد أكبر من الأصوات من خارج الأقلية، بالتالي فلا يمكن القول فعلا بأن هذا النائب هو ممثل الأقلية المحددة بالقانون.
كما أن المشكلة الأخرى تنبع من تمثيل الأقليات في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية كالمدن الرئيسية والتي لا تجتمع الأقليات فيها في دائرة انتخابية واحدة، بل في دوائر انتخابية مختلفة. ففي هذه الحال لا يكون لدى الأقليات القدرة على أن يتم انتخاب أعضاء ممثلين لهم في المجلس النيابي، وحتى لو كانت نسبتهم الكلية من الناخبين في تلك المدينة عالية.
لذا، فالتشوهات التي أفرزها النظام الانتخابي من تمزيق المجتمع الأردني من خلال تزكية النزعات العشائرية وتكريس الإقليمية في اختيار المرشحين وفي تفتيت الأصوات الانتخابية يجب أن لا تعزى كلها إلى نظام الصوت الواحد، والذي قد لا يكون الأكثر ملاءمة لتفعيل الحياة السياسية والحزبية، إلا أنه ليس المسؤول بشكل كامل عن إفرازات الانتخابات النيابية ومجالس النواب السابقة، حيث تتحمل الدولة مسؤولية الخطأ في إساءة تطبيق نظام الصوت الواحد على أرض الواقع والتغييرات غير الموفقة التي أجرتها على أسسه وقواعده.