تخلَّت الحكومات فتحلَّل الشعب

كثرت في الآونة الأخيرة حالات العنف المجتمعي وغير المسبوقة في مجتمعنا البعيد تماما والحمد لله عن الطائفية المذهبية والصراعات الدينية والصدامات الحزبية بل يتصف بالتجانس والإنسجام بين مكوناته مما خلق جوا من الإستقرار الإجتماعي التفاعلي الإيجابي بين هذه المكونات حتى بات الحرص على هذا الإستقرار من طبائع الأردنيين وثوابتهم التي ميزتهم عن الكثير من المجتمعات العربية .

فعندما يوصف مجتمع ما أو شعب ما بوصف يميزه عن غيره يكون ذلك عائد لتراكمات متتالية تم اكتسابها عبر السنين من الممارسات السلوكية والأنماط الإجتماعية التي بمحصلتها أدت لذلك الوصف أو الصفة المرتبطة بمجتمع ما أوشعب ما . فعبر السنوات تم وصف المجتمع الأردني بالمستقر والآمن, وصفان إرتبطا بالأردن داخليا وخارجيا . وهذان الوصفان يكمل أحدهما الآخر إذ لا وجود لأحدهما بغياب الأخر . الإستقرار يتحقق نتيجة لتحقيق عوامل كثيرة يجني ثمارها أفراد المجتمع وينعموا بها حتى يصبح لازمة يصعب تجاهلها أو القفز عنها إلا بمبررات وأسباب ودوافع أكثر تأثيرا من مبررات وأسباب ودوافع إقرارها .

ولا شك أن التركيبة الإجتماعية الأردنية القائمة على العشائرية ساهمت كثيرا بتكريس الإستقرار حيث الكثير من الخلافات تحل عشائريا دون اللجوء للدولة. والتفاهمات بين العشائر قامت بدور المساعد والداعم للأمن مما جعل دور الأمن في كثير من الحالات دور المراقب الجاهز للتدخل إذا استدعى الحال. لكن مع مرور الزمن دخلت مؤثرات كثيرة مثل الإنفتاح وثورة الإتصالات وسهولة التواصل والسريع مع الآخر, بدأ المجتمع العشائري الأردني يتأثر تدريجيا بهذه المؤثرات العالمية مما جعله أكثر قربا من المجتمعات المدنية يهضم ويستوعب بعض سماتها وقيمها ويرفض ما يخالف قيمه رغم وجود بعض التحفظ عند البعض تجاه ما تم استيعابه.

نتج عن هذه المؤثرات خلخلة لبعض السمات الأصيلة التي خلقت عند الأجيال المتلاحقة الرغبة بالهرولة نحو تحقيق مقومات المجتمع المدني الديموقراطي الحديث مع الإحتفاظ بقيمهم العشائرية. فتولد ما يشبه الصراع عند الأجيال بين الحداثة التي تتآكل أمامها القيم المجتمعية الأصيلة وبين الرغبة بالحفاظ على التركيبة العشائرية التي تتنامى معها الأصالة القيمية المجتمعية.

من المؤثرات التي لعبت دورا مباشرا الهجرات التي استقبلها ويستقبلها الأردن متأثرا بموقعه المتوسط بين مجتمعات تعاني من عدم الإستقرار بالتزامن مع لازمة الإستقرار التي كان يتمتع بها الأردن. وهذا المؤثر بثقافته الخاصة ومفاهيمه المختلفة زاد من أسباب ودوافع الجيل الجديد للإستجابة والتفاعل ومحاولة التماهي للحاق بالركب ليصنع من نفسه منافسا كفؤا وليمارس واجبه تجاه وطنه. ونظيف إلى تلك المؤثرات وجود مغذيات ذات مصلحة شخصية آنية وأخرى بعيدة المدى لا تخلو من الخبث المستتر بعباءة الولاء والإخلاص وهؤلاء الذين أسميتهم في مقال آخر بالبرامكة.

والحكومات خف دورها الأصيل بشكل واضح من خلال تأثرها بما يطلب منها تنفيذه من المستترين وأخذت تضعف حتى باتت لا أهلية لها بثقة الشعب مما جعل كل المؤثرات السابقة تخلق قلقا وتوترا أديا لصحوة لاسترداد الحقوق والحفاظ على الكرامة والوطن.

فصفة الإستقرار التي طالما وُصف بها الأردن كانت نتاج استجابة وتفاعل واحترام بين طرفي معادلة الإستقرار وهما الشعب والدولة مما أدى إلى الوصف الآخر للمجتمع الأردني ألا وهو المجتمع الآمن . وفي المقابل عندما لا تتوفر أو عندما يحصل خلل في أحد عناصر الإستقرار الثلاثة وهي الإستجابة والتفاعل والإحترام فذلك يؤدي إلى إخلال بالمعادلة يترتب عليه استحقاق باهظ الثمن .

وللوضوح نقول ، أن العناصر الثلاثة السابقة كانت متوفرة نسبيا ومقبولة ومرضية للشعب فأدت لتحقيق الإستقرار المجتمعي الذي بدوره أدى إلى توفرالأمن . لكن التطورات السياسية الناتجة عن الرياح العاصفة بالإقليم التي نحن دائمي التأثر بها في المنطقة من حروب وهجرات وإحتلالات وإنفجارات شعبية, أتاحت المجال لدخول مؤثرات ومؤثرين جدد أصبحوا مستشارين بإتخاذ القرار ثم مشاركين به ثم صانعين مؤتمنين له مستغليين سمة الإستقرار المبني على الإحترام من قبل الشعب للدولة التي لم تقسو عليه كما هي تقسو في الآونة الأخيرة . فظن صانعوا القرار أن هذا الإحترام قائم ودائم لا محالة رغم ما يمكن أن يطرأ من إجحاف واستحمار ومهما صنع المؤتمنون . فالإحترام الذي فسروه طاعة عمياء قادهم للعمل على تحقيق ما يرمون إليه منذ زمن من تدمير للوطن الأردني بمواطنيه ومقدراته .

فلجأوا إلى مصادرة الحقوق ونهب الأموال والإستهتار بالشعب وإفقاره وإقصائه حتى خلقوا الأسباب التي من شأنها أن تقود الناس وتدفعهم للشعور بالظلم الذي لا تسكت عنه حتى الحيوانات وكنتيجة لذلك ستثور الناس لاسترداد حقوقها والمطالبة بما فاتها وتدخل بصدام وصراع مع الدولة والنظام وتكون المهمة قد أُنجزت .


وأسوأ ما يحرك الشعوب هو شعورها بالظلم والإهمال وهي ترى حقوقها تهضم من قبل فئة محدودة دخيلة تموضعت في سدة القرار نافثة سمها الزعاف بممارسات وقرارات ملتحفة بالثقة المطلقة ومتسلحة بالرضى الناتج عن إنطلاء الحيلة والنفاق والتزلف والتظاهر بالإخلاص والإنتماء والولاء .

ترى هل الدولة بحكوماتها المتعددة في العقد الأخير حافظت على لازمة الإستقرار وكما أسلفنا تقوم على عناصر ثلاثه هي الإستجابة والتفاعل والإحترام ما بينها وبين والشعب ؟؟ هل احترمت الإستقرار الذي طالما تغنينا به وكنا نحسد عليه ؟؟

الشعب وبنسبة تفوق 90% منه يصرخ عاليا أن الدولة لم تحترم ذلك العقد الأخلاقي بينها وبين الشعب بل نقضته وأخلت به مما جعل الشعب في حل من أمره وغير ملزم بأن يحترم الطرف الأخر . إن ناقض العهد لا احترام له ولا يؤمن جانبه . ومن نتائج ذلك الدفع, وهو في الواقع دفع نحو الحافة, يبدأ الناس بالبحث عن سبل النجاة بكل الوسائل المتاحة . وفي حالتنا نحن الشعب حتما ستكون ردة الفعل هي الإنفلات وعدم الإلتزام بالعقد الأخلاقي مع الدولة . وما يحصل من عنف في مواقع يجب أن تكون بعيدة كليا عن العنف ما هو إلا نوع من الإنفلات الذي يحتم أحيانا على الدولة بارتكاب المحرمات الدولية لدخول الجامعات للسيطرة على المنفلتين وضبطهم وفرض هيبتها التي ستكون رسالة للجميع بمثابة كسر العظم.  
عند هذه المرحلة يبدأ الصدام بين الشعب والدولة بصور مختلفة منها صدامات بين مكونات الشعب نفسه وسببها الإختناق والإحتقان اللذان سببتهما الدولة حتى صار الناس بلا هامش للتحمل ونفذ صبرهم وأبسط الأسباب كفيلة بإثارتهم ، ودور الأمن أو الدولة هنا فرض النظام والأمن وفض الإشتباك بين الناس الذين تم إلهاءهم بسفاسف الأمور التي أصبحت تشغلهم بأمل من الدولة أن تحول أنظارهم عما هو الأهم . والشعب الأردني بوعيه قد أدرك ما يخطط ويحاك الشيء الذي دفع به إلى مرحلة التحلل من أخلاقيات احترام العقد المبرم بينه وبين الدولة.

فكيف سيستجيب الشعب ويتفاعل ويحترم الدولة التي فقدت أسباب وقارها وأوصلته لما لم يكن يتمناه ؟؟!!

وهذه الحالة حتما ستقود إلى التصادم الذي ستفسره الدولة بالتمرد وعدم الإمتثال للنظام وقوانين الدولة والعمل على الإخلال بالأمن الشيء الذي لن ترضاه الدولة ، فتكون قد خلقت المبرر للتعامل بما يسمى الأمن الخشن لضبط الناس وإجهاض أية محاولة للإحتجاج وقمع أي تفكير بالتعبير عما يدور في خلد الناس .

ما نخلص إليه ، أن العنف الذي نرى شرره يتطاير ويتزايد شيئا فشيئا في كل مكان في الأردن لهو عنف "مفتعل" نتيجة السياسات الخاطئة والمستهترة من قبل الدولة وبنفس الوقت "مُبرَّر" لحد ما من مرتكبيه نتيجة الإستخفاف وعدم احترام العقد الأخلاقي الذي تم إحترامه طويلا . وهنا نصور الواقع ولا نتمنى استمراره بل نتمنى ازالة أسبابه لضمان عدم تكراره.

والعنف الجامعي, كشكل من أشكال الإنفجار للتعبيرعن الإحتقان المتراكم والضغط المتزايد والغليان الحارق, ما هو إلا نتيجة لما حقنت به الحكومات الشعب من سياسات تتورع عنها حكومات الدول الشيوعية والإشتراكية التي تستعدي الناس إذا هم ليسواعلى شيوعيتها. وببساطة شديدة هذه الحكومات توفر كل ما يلزم مواطنيها (مع تحفطنا على الشيوعية كعقيدة ونهج حياة) أما في حالنا, الشعب هو المطالب بالدفع ليوفر ما يلزم الحكومة حتى بات لا يقوى على الصبر ولا يرى انفكاكا من إعداد العدة التي يضمن بها أن يُسمع صوته . لقد حذرنا وحذر الغيورون كثيرا وقدمنا النصح مرارا لكن تأتي الحكومات بما لا يشتهي الشعب.

كما ونخلص إلى أن الأجسام الغريبة المتأردنة (على مبدأ عرب عاربة وعرب مستعربة) التي أُدخلت في صلب صناعة القرار الأردني قد عكرت صفونا ونخرت بنياننا كما يفعل السوس بالخشب ولوثت هواءنا وخطفت قوت أبنائنا ونهبت أرزاقنا وسرقت أموالنا وباعت ممتلكاتنا ، فهل آن الأوان لقطف ثمار زرعكم أيها المستترون بالولاء المؤتمنون على التخطيط والقرار ؟؟

وحمى الله الأردن والغيارى على الأردن . والله من وراء القصد .