المفقود

المفقـــــود
ماضٍ من الأيام، ما تتبدل = ذكرى تظل إذا الفتى يترجَّلُ
ذكرى بها قد أسفرتْ عن حالها = أحداثُها، صَرْعى بها تتقلقل
ويشُقُّ حاضرَها فتِيٌّ يانع = أضحت به تلك الغواية تنخُل
هي عشقه الأبدي، وهي حياته = وهي الردى في غيها والمأمل
هي فتنة الرائي شغوفاً طامعاً = سحرٌ من الأطياب عذبٌ سَلْسَل
قـدرٌ عليه، وللهـوا أسبابه = حُمَّ القضاءُ بها، وحُمَّ المقتل
والفتك صنعتها، فكيف يصدها = حرص به هذي الشواهد تَمْثُل؟َ
*********
أضحت بقارعة الطريق يجنها = غولٌ يرى في ثوبها يتبدّل
تمشي الهوينى عارِضاً مستعرضاً = كالريم في عرض الربى تتنقّل
تختال عامدة، وتربُض مبسماً = لكأنها طيف سرى يتسلّل
ولَهَاً بها الملتاعُ إن تبْصُرْ به = طُلابُها من حولها تَتَجَحْفل
وتخالها ما إن دنت من ذا تَرى = أو ذاك وجهاً باسماً يتهلهل
فتنقّلت بين الوجوه كأنها = كالرسم ريشتُه انتقت ما يَجْمُل
وتخيّرته من الورى، فَجَرَى به = عَطَلٌ غشا عينيه مما تَشْهَل
أسِعفْ به غُنْماً لها، أوداجُه = هطّالةٌ فيضَِ الفتوّة جَدْول!!
متَنَفَّساً فيه الصبا مسْتَشْرَفاً = ما كاد فيه من الضلوع يُجَلْجِل
عهدي به في عنفوان شبابه = ليس الذي يُرجى به مُتَغَزَّل
فعلامَ، واحرقي!، يُقاد، أرى به = من تحته بأس الغِوى يتغلغل؟!
أضحى لها حظواً، وكان يشوقه = نار به تشوي وقلب يخْطََل
قدماه تَجْمَرّان في نعليهما = ولبابه المغدور فيه مُعَطّل
وشغافه نَوْحٌ يدُقُّ حَمِيَّها = عَجِلاً بما يأتي به المستقبل
أمٌّ له لو أدركت ما نابه = حالاً، لَعَمْرُ أبيه، بئس الموئل!!
لقَضَتْ بما اسطاعت يداً لفقيدها = حتى يَرِقَّ لمقلتيها الحنظل
هذي لعمري التهلُكات لذائذاً = من حيث جنيُّ الهوا يتغوّل
والقادم المشؤوم لو يدري به = ماضيه كان مع التعفف أنبلُ
ودنت له فإذا العيونُ حديثُها = سرعان ما أوحت به ما تحمل
سَحّاً تجود من الغرام يسوقها = زعْماً حواه من الشكاةِ تَعَوُّل
وغدت تناغيه الرغائب أخْيُلاً = برهافة من حيث تحيي تقتل
كالأنْمُلِ انتفضت فكنّ حباحِباً = من وَجنةٍ في صَفحِها تتنمّل
**********
إذهبْ معي، فالدار، لو تدري بها = كم تشتهي جدرانها إذْ تُقْبِل!
إذهب معي، فالزهرُ حان قَطافه = أفما ترى سيقانُه كم تُثْقَل!
فتغرّد الغِرّيدُ في أحشائه = لكأنَما الأحشاءُ فيها بلبل
وتضاحك الدرب النديُّ لخطوه = فخطاه في درب الهوا تتسربل
ومضى يرِفُّ الليل أنْسَهما معاً = في ساعة صرعى وأخرى تثمُل
كان المساءُ حرارة قانيّةً = لا مطبقٌ جفناً ولا مترجِّل
والغرفةُ المعياةُ تنشد راحة = من زائرٍ لمّا يزلْ يسترْسِل
ليلى أحسُّ الدم بين أضالعي = يغلي، وروحي في حشاتي تصهل
وأحسُّ قلبي نبضَه هَلَعٌ به = لكأنه مَسٌّ به يتنزّل
وحشيةً يذوي الفقيد فداءَها = مستنزَفاً في جهده يتحلّل
وتأنُّ أضلُعه على سَكَراته = قِطَعاً شراهتُها لها تستأصَل
وتعُجُّ من شريانه رغباتِها = ويجُؤّه منها افتراسٌ أنكَل
نِعَمٌ له الأكُلاتُ، في لذاتها = منها اشتهى حيثُ الزمانُ الأول
فإذا انبلاج الصبح يَمْكُو ناهداً = جَسَدٌ به تَلَف وآخرُ يأفَل
وإذا انطواء الليل يحكي قصة = ذهبت به كالسحر حين يُخَيَّل
لتراهما روحين نائمتين في = كَنَفيْهما حُلُمٌ الصبا يتخضّل
هذي هي الساعات تأتي سُرّعاً = حيناً، وحاناً بعضها متأجَّل
***********
ومضت به الأيام شاغلَ عهدِه = ما كان منه من الهوى مُتَجنْدَل
قَدَمٌ بها زَلَلٌ، وأخرى خلفها = ينعى بها أمساً غدٌ متسلسِل
والحال هذا الحالِ لا صَرْفٌ له = أملاً، ولا سببٌ به متعوَّل
سنةٌ مضت والناس بين مكذِّبٍ = مما اعتراه وبين راءٍ يذهَل
هذا الفتى ولّى بقادِم عهدِه = من قبل حين به الفتوة تحفل
هذا هو الملقى على أوجاعه = لم يبق من أضلاعه متأمَّل
عيناه ذابلتان في غوْرَيْهما = ويداه ترتعشان رَجفاً ينغُل
قد كان ماضيه يشقشق خافقاً = بشبيبة ترعى، وزندٍ يبسُل
فأبى له إلا المهالكَ، لاعجاً = يغترُّ فيه فتوة، ما يفضُل
حتى غدت عنه الفتوة غابراً = والباقيات بها غدٌ متحوِّلُ

حسن محمد نجيب صهيوني
Hmns_najeb@orange.jo