شكرا اميركا .. و لكن ..

شكرا اميركا .. و لكن .. ـ
لا تهمني الاتهامات و لا انصاع لأوامر أولئك الذين يدعون الوطنية و يرتمون في احضان الغرب و يقتلون شعوبهم ، و اقدر شعور كل وطني غيور على البلاد العربية و الاسلامية و اؤكد له انني معه قلبا و قالبا و انني متساويا معه في الشعور الوطني و القومي و الاسلامي و ان عندي من الانتماء ما يكفي لأن أقاوم من اجل وطني و أمتي حتى الموت ... و مع هذا اقول شكرا لأميركا و لكن .ـ

لم يعد العالم دول متفرقة تحكمها انظمة بانفراد بل اصبح العالم الان ما يشبه الدولة الكبيرة و باتت الشعوب متصلة مع بعضها اتصالا لم يتوفر في اي وقت مضى من التاريخ و اصبح واجبا على الدول الكبيرة و الاكثر حضارة ان تمسك بأيدي الدول الاقل حضارة و تقودها الى ما ينفع شعوبها و يجنبها الكوارث و الحروب و يجنبها السقوط في الهاوية . لا استطيع ان اسرد كل الامثلة على ذلك لانها كثيرة و تحتاج الى كتب و لكن الامثلة امامنا شاهدة فالغرب الذي انقذ تركيا من براثن العسكريين و القوميين الاتراك الذين حولوا تركيا الى مزعة لهم و دمروا اقتصادها و اصبح الشعب التركي عبيدا عند قادتهم ، هذا الغرب يجب ان يشكر على ذلك تماما مثلما يشكر احرار تركيا الذين تحركوا لانقاذ بلادهم و لم يتركوها لمجموعة من اللصوص و الفاسدين و ما كان ذلك ليحدث لولا تفهم احرار تركيا للواقع و انسجامهم مع مبادىء الديمقراطية و الحرية .ـ

ان وقوف اميركا مع الشعوب العربية في الربيع العربي ليس هو الوقوف الاول معها و ان كان جزئيا و ليس كليا و مطلوب من اميركا موقف اكثر تشددا و انحيازا اكبر للديمقراطية و ليس الكلام وحده يكفي ، نعم ليس هو الوقوف الاول بل ان اميركا وقفت مع العرب عام 1956 و حمت البلاد العربية من استعمار جديد من اوروبا و اسرائيل و ان إلتزام اميركا بتوازن القوى في الشرق الاوسط هو امر تشكر عليه فهي تستخدم القاعدة الت تقول لا يموت الذئب ( اسرائيل ) و لا يفنى القطيع ( العرب ) ، و الذي ارجحه انه لو امتلك احد القادة العرب نصف ما تمتلكه الولايات المتحدة من الاسلحة المتطورة فلن يتردد هذا القائد العربي عن غزو العالم و تدمير الدول و لن تذرف عيونه الدمع و هو يلقي بالقنبلة النووية على رؤوس المعارضة داخل بلاده . و نحن لا ننسى ابدا انحياز اميركا لاسرائيل لكن هذا الانحياز له ما يفسره حيث اللوبي الصهيوني داخل اميركا و حيث قوة اليهود في العالم مقابل تفرق العرب و عدم اخلاصهم لقضيتهم العادلة . و لا ننسى ايضا ملايين القتلى و الايتام التي خلفتها حروب اميركا على العراق و افغانستان و حروبها في مختلف مناطق العالم مثل اليابان و فيتنام و اميركا الجنوبية و ان الولايات المتحدة مسؤولة عن هذه الحروب و عن جميع الضحايا الذين سقطوا ، دون ان ننسى ايضا ان ابناء هذه الامة هم من شارك اميركا في حربها علينا بل هم من قادوها الى بلادنا و ان ما قتله الايرانيون و اتباعهم من ابناء العراق و افغانستان ربما يفوق عشرات المرات ما قتله الاميركان انفسهم و ان سماح العرب للقوات الاميركية بالانطلاق من بلادهم يحمل العرب المسؤولية ايضا و ان سكوت الشعوب العربية على ذلك هو ايضا اسهام في هذه الحروب التي لم يعرف حتى الان ماذا جنت الولايات المتحدة منها و ماذا استفادت غير انها دمرت البلاد و تركتها للاخرين .ـ
ان البعض يشبه اميركا بالثور الذي من الممكن قيادته نحو اي اتجاه ، و هناك من يصف اميركا بأنها ليست الا خادمة لاسرائيل او انها تابعة لبريطانيا ، لكن اعتقد ان اميركا كدولة عظمى لها سياسات واضحة تتعلق بمصالحها و قد جاء اوباما و ألقى خطابه التاريخي في القاهرة و طلب من العرب بشكل علني ان يتعاملوا مع اميركا وفقا للمصالح المشتركة ، و جاء رد الانظمة العربية بشكل يوحي انه عدم انسياق لاميركا لكن في الواقع كان هناك استجابة لرغبات اميركا التي لا تتعارض مع مصلحة الانظمة و عدم استجابة مع رغبات اميركا التي من الممكن ان تنعش الشعوب و تحقق لها الحرية و الديمقراطية .ـ

و الولايات المتحدة و هي دولة ناتجة من كل شعوب الارض و هي متعددة الأعراق و الديانات و الاتجاهات الفكرية استطاعت بناء حضارة مادية فائقة و غير مسبوقة و هي قدمت للبشرية مختلف انواع الصناعات و اثرت العالم بالكثير من التقنيات و التقدم العلمي الذي يفوق الخيال ، هذا الوجه الايجابي يجب ان لا نغفله عند ذكرنا للولايات المتحدة التي تشن حروبها على الدول و الشعوب الاخرى ، فهي تملك وجهان ايجابي و سلبي و علينا استغلال الايجابي منه لمصلحتنا و محاولة تجنب السلبي بما يحفظ الشعوب العربية و بما لا يجعلها تقدم تنازلات كبيرة مقابل ذلك .ـ

و ان قيم الديمقراطية و الحرية التي تدعو لها اميركا يجب استغلالها من الشعوب العربية بحيث تطبقها للخلاص من الانظمة القمعية الدكتاتورية و ليس ان تواجهها بحجة انها قادمة من الخارج او انها تاتي من اميركا لأن عدم تطبيقها او عدم الاخذ بها سيعني البقاء في العبودية و الذل للانظمة المترهلة و للطبقة الاورستقراطية الفاسدة التي تمتلك الثروات ولها نفوذ مطلق في الحكم .ـ

اعتقد ان الذي منع و يمنع الانظمة العربية من التغول على شعوبها و من ارتكاب مجازر جماعية بهم هو خوفها من اميركا و بعض الدول الاخرى والمنظمات الدولية و الانسانية فهذه الانظمة لها حد معين في القمع و الابادة و ليست مطلقة اليد على شعوبها و هذا الامر يأتي ضمن تفاهمات طبيعية بين دول العالم المتقدم و الانظمة في العالم الثالث و هو ايضا نتاج لتضارب المصالح و علاقات الشعوب مع بعضها و هذا ما سخره الله لبقاء البشرية و ديمومتها .ـ

و كم نحن بحاجة الى أحرار يتمسكون بحب وطنهم و يعشقون ترابه و يموتون من اجله و يخلصون للامة العربية و الاسلامية لكنهم في نفس الوقت يفهمون الواقع جيدا و يعرفون اين تكمن مصلحة وطنهم و يدركون موازين القوى العالمية و يعملون بما هو ممكن و ليس بالخيال و بمحاربة طواحين الهواء .ـ

انا اعرف ان البعض سيتفاجأ من مقالتي هذه و ربما يعدها البعض انها رضوخ للغرب و ارتماء في احضانه و تخل عن الامة لكنني ارجو من الذين سيهاجمونني و هم صنفان صنف لا يريد التغيير و مستفيد من هذا الوضع و لا تهمه مصلحة الامة و غير آبه بضياع الوطن و هو في الواقع تابع للغرب أو للشرق و يعتاش من تبعيته هذه و يدعي الانتماء و يصف غيره بالخيانة فهذا الصنف لا يهمني ابدا و لا اسمع له ، اما الصنف الآخر فهو الذي اعتاد على روح المقاومة و روح الإباء و التضحية من اجل المباديء و عدم الرضوخ للاجنبي مهما كانت الاسباب و الامل بشمس الحرية التي ستشرق من داخل الارض العربية لا من واشنطن و لا من اي مكان في العالم هذا الصنف ارجو منه ان يعذرني على هذه المقالة و ارجو ان يتفهم موقفي ، فأنا ارى وطني يضيع و ارى امتي تائهة و ارى ان الاعداء كثير و ان المتخاذلين موجودون في كل مكان و ان الاحرار قليل و ان الاحرار منقسمين و مقسمين و لا يوجد لهم رأي واحد و ان الامة العربية غير قادرة على الوقوف على قدميها دون مساعدة غيرها فهذه الامة اعداؤها من داخلها و احرارها قليل و متخاذلوها كثير و شعوبها ان تحركوا فهم يتحركون فجأة ولوقت قصير ثم يتحولون الى طبقة صامتة لا تستجيب لما حولها و لا تؤثر بها وخزات الابر و لا تثيرها الاهانات و الوطن عندها ليس اكثر من مكان للسكن و المعيشة و قضايا الامة عندهم ليس اكثر من ترهات و اكاذيب و خيال .ـ

ان الذي يمرض ابنه يذهب به الى الطبيب و يدخله في افضل المستشفيات و عندما يسمع ان علاجه لا يوجد الا في اميركا فسوف يبذل كل جهده من اجل علاجه في الولايات المتحدة فكيف بمن يرى وطنه يئن من الجراح و يحتضر و يعرف ايضا ان القرار في واشنطن و ان الجلادين لم يكن لهم ان يفعلوا ما فعلوا بالوطن الا لأنهم حازوا رضا اميركا بواسطة الشرعية التي يدعون انهم يملكونها من شعوبهم . و ماذا تفعل اميركا لشعوب تصفق لمن يهينها و لمن سرقها و نهبها و اميركا في النهاية لا يهمها الا مصلحتها او ما يتوافق مع مصلحتها ، و انا لا ادعوا الى التسابق مع المتخاذلين لنيل الرضى من اميركا بل ادعوا الى التعامل مع اميركا وفقا لمصالح الامة ووفقا لمصلحة الوطن دون مكابرة و دون تنازلات كبيرة . و لا يحق لطرف من الشعب ان يذهب وحده ليتفاهم مع اميركا بل يجب ان يكون هناك تفاهمات داخلية توحد مطالب الشعب و ان تكون رسالة الشعب واضحة لاميركا و هي ان نيل الحرية و الديمقراطية لن يكون مضرا بالمصالح الاميركية خصوصا الاقتصادية و السياسية منها ، هذا يتطلب تفهما من المثقفين العرب و من السياسيين و الناشطين السياسيين على الارض و من ابناء المعارضة و من مختلف مكونات الشعب فالأوطان هي مسؤولية باعناقهم و لا يمكن تضييعها بشعارات غير واقعية ستؤدي الى هلاك الامة .ـ

ان الولايات المتحدة ليست جمعية خيرية بل هي دولة لها مصالح في المنطقة العربية و في مناطق العالم المختلفة و هي دولة عظمى و هي الان تتربع على القمة و لا يمكن تجاوزها و لا يمكن ان يتم اي تغيير في البلدان العربية دون موافقتها ، هذه هي الحقيقة التي لن اخجل في ذكرها لأن المحب لوطنه و لأمته هو من يوضح الطريق امامها و يبين الحقائق و ليس من يغطي عليها و يستغفل شباب الامة و يتنطع بالكلمات الوردية و الثورية و الحماسية التي تلهب الصدور ثم تتحول الى دخان يشبه دخان الألعاب النارية التي يطلقها الاطفال ..فالكلمات الثورية و الحماسية لابد ان يرافقها الجد و الاخلاص و الاستمرار في الثورة و التضحية من اجل الوطن .ـ

و ان الولايات المتحدة لا يمكن ان تضحي بمصالحها من اجل عيون العرب او من اجل الثورات و الحراكات للشعوب العربية لهذا فإن تبادل المصالح هو الذي يفرض نفسه على الواقع و على الاحداث و ليس مطلوبا من الشعوب العربية اكثر من المطالبة بالديمقراطية و الحرية و النهوض بالبلدان العربية و انقاذها من السقوط الحضاري و الاقتصادي الذي تسببت به الانظمة العربية التي تم تغييرها او التي مازالت حتى الان و هي مترهلة و غير قادرة على الحكم و ادارة البلدان العربية . ـ

اما ان يخرج علينا من يستبق الزمن و ينادي بتحرير فلسطين و القضاء على اميركا و اسرائيل و تكوين دولة عربية واحدة الان فهو لا يقرأ الواقع و ليس لديه خبره في مراحل نهوض الامم و لم يقرأ التاريخ جيدا . ان المطلوب الان من الشعوب العربية هو التخلص من الفساد و سوء ادارة الدولة و الاتجاه الى مرحلة البناء المعنوي والمادي لتقوية ابناء الامة و تزويدهم بالعلم الكافي الذي يؤهلهم الى صناعة حضارة قادرة على مقارعة الاعداء . فنحن الان في مرحلة هزيمة ساحقة لأن الهزيمة ليست من اعدائنا فقط بل من ابناء جلدتنا و من يتربعون على المناصب و يمثلون القيادات .ـ

و الذي يدفع بأبناء الامة ان ينظروا الى الخارج أو الى اميركا هم أبناء جلدتهم الظالمين الذين استحوذوا على القرار و على ثروات البلدان العربية و احتموا باميركا و روسيا و اسرائيل و هم لا يتوانون عن سجن و قتل و تدمير كل من خالفهم من المختلفين معهم في الرأي ، و هم مستعدون لتدمير البلاد و العباد في سبيل عدم ترك السلطة او عدم ترك المكتسبات المادية و المعنوية التي سلبوها من ايدي الشعوب و من ايدي الكادحين من ابناء الامة ، لهذا نقول لهم انتم من تدفعون بابناء الامة الى الرد عليكم بنفس الاسلوب الذي تتبعونه في ظلمكم و عدوانكم .ـ

و لأن اميركا دولة لها ايجابياتها و لأنها قدمت بعض المواقف التي تدل على انها قابلة للاصطفاف مع الشعوب ضد الانظمة الظالمة فإنني اقول شكرا لأميركا و لكن ليس قبل ان تصطف اصطفافا كاملا مع الشعوب و ضد الانظمة من اجل تحقيق مبادىء الديمقراطية و الحرية التي تجعل شعوب الارض تعيش وفق منظومة الانسانية في عالم مليء بالسلام و الاستقرار و حياة تحفظ سلامة الشعوب و تصون كرامتها .ـ