الدولة المدنية.. ما هي صبغتها؟

من بين الانتقادات التي وُجهت للرئيس المصري الجديد الدكتور محمد مرسي، انتقاد يقول أصحابه فيه إن من باكورة تصريحاته أنه يُنادي بالدولة الديمقراطية المدنية، وهذا يتنافى ويتعارض -وفق رؤية أصحاب النقد- بطبيعة الحال مع نظام الخلافة، والحكم بما أنزل الله في الصغيرة والكبيرة، ومن قبل ذلك يرفض أرباب تلك الرؤية، مبدأ الانتخابات التي أوصلت الرئيس إلى سدة الحكم؛ لأنها -وفق نظريتهم- تصطدم مع الطريقة النبوية في التغيير وإقامة الدولة.

لا يخفى أن أصحاب تلك الرؤية والنظرية، ينطلقون من منطلق أن نظام الحكم الذي يجب اتباعه والالتزام به هو الخلافة، ولا شيء خلاف ذلك، وأنه لا يمكن العدول عنه إلى غيره بأي حال من الأحوال، بصرف النظر عن الواقع وإكراهاته الضاغطة، وابتعاد المسلمين عن تطبيق الإسلام لعقود متتابعة؛ جراء تطبيق العلمانية في ديار المسلمين، يقول صاحب كتاب «الدولة المدنية.. مفاهيم وأحكام» في نقده لمثل تلك التوجهات، موجها كلامه للمشايخ الكرام: «التفكير بطريقة الخيارين المحصورين (إما خلافة نبوية، وإما نعتزل في مساجدنا) تفكير غير صحيح، ولا يجري على سُنن الفقه، وليس هو من مراتب أهل العزم، والفقيه حقا من راعى أزمنة الشر وضعف آثار الرسالة، فتدرج بالبيان، ووازن بين خير الخيرين، وشر الشرين، ودفع الشر الأعظم بالشر الأقل».

ثم ينقل نصاً عن سلطان العلماء العز بن عبدالسلام يقول فيه: «إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فعلنا ذلك امتثالا لأمر الله تعالى فيهما، لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} التغابن:16، وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة، درأنا المفسدة، ولا نبالي بفوات المصلحة، وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة، حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد، فقد يتخير بينهما، وقد يُتوقف فيهما، وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد..».

فسلوك اتجاهات الإسلاميين الذين رضوا بالنظام الديمقراطي، يتمثل في أنهم لم يقبلوا به ابتداء على أنه يماثل الدين (في التشريع)، بل باعتباره جملة من الإجراءات والترتيبات، فلهم الحق في أن يصنعوا نموذجهم الخاص بهم، وثانيا لعجزهم عن تطبيق ما هو أولى منه بحكم الواقع القائم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «.. كما أن من الأمور المباحة، بل والمأمور بها إيجابا أو استحبابا، ما تُعارضها مفسدة راجحة تجعلها محرمة أو مرجوحة، كالصيام للمريض، وكالطهارة بالماء لمن يخاف عليه الموت، كما قال صلى الله عليه وسلم: «قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا! فإنما شفاء العِيِّ السؤال»، وعلى هذا الأصل يُبنى جواز العدول أحيانا عن بعض سنة الخلفاء، كما يجوز ترك بعض واجبات الشريعة، وارتكاب بعض محظوراتها للضرورة، وذلك فيما إذا وقع العجز عن بعض سنتهم، أو وقعت الضرورة إلى ما بعض ما نهوا عنه، بأن تكون الواجبات المقصودة بالإمارة لا تقوم بما مضرته أقل..».

أما ما تقوم به شخصيات واتجاهات إسلامية من إطلاق تعبير «الدولة الديمقراطية المدنية»، فهم ليسوا ملزمين بكل أحمالها الأيديولوجية والعقائدية، على أنها ليست ذات مفهوم واحد عند أربابها الأصليين، فليس صحيحا أن الديمقراطية لا يمكن فهمها إلا على أنها «أيديولوجيا»، بل هي عند اتجاهات غربية معتبرة تُفهم باعتبارها عملية إجرائية تنظم الحياة السياسية، كذلك فإن الدولة المدنية تطلق في مقابلة الدولة العسكرية أصلا، لكن النخب العلمانية العربية أكثرت من استخدامها في مقابل الدولة الدينية، مصورة للإسلاميين الذين يشتغلون بالعمل السياسي، على أنهم يسعون لتطبيق رؤيتهم وأفكارهم، من خلال دولة دينية، يستمدون فيها سلطتهم من الحق الإلهي المباشر، فوجد الإسلاميون أن تعبير «الدولة المدنية» التي تعني أن الحاكم ومن يمارس السلطة فيها، يستمد سلطته من الشعب، وليس من أي جهة أخرى، تعبير سائغ ومقبول بهذا الاعتبار، وليس على أنه صناعة علمانية، يراد منها فصل الدين عن الدولة، ويحتكم فيها الناس للبشر بدل رب البشر.


أرباب ذلك النقد، يصدرون عن رؤية «مقولبة» ناجزة، فهم يجعلون من فهمهم البشري، لما أسموه الطريقة لإقامة الدولة، حكما شرعيا ملزما، بحسب فهمهم لوقائع السيرة النبوية، حاصرين الطريقة بما فهموه واستخلصوه، التي تتمركز في طلب النصرة، أي اختراق القوى القادرة على التأثير والتغيير، وحملها على تنفيذ تلك الرؤية، ثم تسلمهم بكل أريحية زمام الأمور لإقامة الدولة، وإدارة شؤونها، ألا يعبر ذلك عن رؤيا حالمة، تفترض في القوى المحلية والإقليمية والعالمية الغفلة التامة عن تخطيطاتهم وتحركاتهم في ظل الآليات والتقنيات الاستخباراتية والعسكرية الهائلة والضخمة، وكأنهم أشباح تتحرك في الفراغ، ثم أليس الواقع هو الذي يحدد طريقة العمل، فها هي الشعوب في ثوراتها، تفرض طريقا مغايرا أطاحت فيه برؤوس حكم كبيرة، وها هي تصنع نموذجها بعيدا عن الأطر التنظيرية الجاهزة التي فشلت في إحداث تغيير حقيقي خلال نصف قرن مضى من الزمان، وعجزت في سابق عهدها وحاضره عن حشد الجماهير وقيادتها.