زيارة خالد مشعل الثانية للأردن خلال العام الجاري، تبنى على المحادثات "الإيجابية” التي أجراها مع جلالة الملك في زيارته الأولى في كانون الثاني/يناير الثاني، فتحت الباب لتطبيع علاقات الأردن بالحركة، أما الزيارة الثانية فالأرجح أنها ستكرس علاقات التعاون بين الجانبين، وربما تشتمل على لقاءات بأركان الدولة تعقب لقاءه مع الملك.
الزيارة الثانية تكتسب "مذاقاً” خاصاً هذه المرة...فالإسلاميون عامة، والإخوان منهم على نحو خاص استقروا على عرش أكبر دولة عربية، وهم نافذون في عدد آخر من الدول، في السلطة أو على مقربة منها...في هذا السياق، تستطيع حماس أن تلعب دوراً تجسيرياً بين الأردن و”أنظمة ما بعد الربيع العربي”، مَنْ تبدّل منها ومَنْ ينتظر، وهو دور أبدت الحركة استعداداً جدياً للقيام به، خصوصاً رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل.
في المقابل، كان الأردن على الدوام، حلقة محورية في سلسلة اهتمامات الحركة...لم تحرق سفنها معه، حتى في أشد لحظات التوتر والانفعال في علاقات الطرفين الثنائية...ولطالما سعت الحركة، زمن إقامة قاداتها في دمشق، أو بعد ذلك، في "توسيط” جهات محلية وعربية عديدة، من أجل "تسليك” قنوات الحوار والتفاعل مع عمان...لكن محاولات الحركة اصطدمت على الدوام إما بـ”لا مبالاة” أردنية غير مفهومة، أو بقراءات محكومة بهواجس أمنية وأخرى إخوانية وديموغرافية محلية متطيّرة، لا أكثر ولا أقل.
الإخوان المسلمون، وفي مقدمتهم حماس، لم يعودوا قوة يُدار الظهر لها، أو يُستهان بها...ليسوا "إخوان الشياطين” كما تصورهم القيادة السورية وبعض أنصارها من أصحاب نظرية "الإسلام المتأمرك”...وهم لم يعودوا تنظيمات محظورة يتعين تفاديها...ومن السخف الرضوخ للقوائم الأمريكية / الغربية السوداء، التي تُدرج حماس في عدادها...كما أنه من الخطأ سياسياً "تعريب” أو "أردنة” شروط الرباعية الدولية الثلاث على حماس...الأردن الذي احتفظ تاريخياً بعلاقات طيبة مع "إخوانه” و”إخوان” دول مجاورة، بمن فيها حماس، يستعيد الآن، أو هو بصدد استعادة، سابق مقاربته وعلاقاته مع هذا التيار، وهذا أمر جيد على أية حال، ولا يمكن وصفه إلا بأنه خطوة في الاتجاه الصحيح.
زيارة مشعل لعمان، ليست منبتّة عن سياق من ثلاث حلقات، مُحمّل بالدلالات، تتابعت فصوله خلال الأيام الماضية: الأولى، استقبال قيادة إخوان سوريا بصقورها وحمائمها بعد فترة طويلة من الاستنكاف والتردد بل و”القطيعة”...والثانية، توجيه السلطة التشريعية لإعادة النظر في قانون الانتخاب، وبصورة تساعد على إشراك إخوان الأردن في الانتخابات...والثالثة، الزيارة التي كُشف عنها فجأة ومن دون مقدمات.
ثمة الكثير مما يتعين بحثه بين الحركة الفلسطينية والدولة الأردنية...المستقبل المسدود للمفاوضات وخيار "الدولتين”...مصائر المصالحة الفلسطينية الداخلية التي تجتاز عثرة لتجابه بعشرة من أمثالها...مستقبل العلاقة بين الأردن والتيارات الإخواني بحركاته وحكوماته وبرلماناته...إلى غير ما هنالك من هموم وشجون موضع اهتمام مشترك.
وسأخرج عن "الكلام المباح” فأقول: إن العلاقة بين الأردن وحماس، قبل ربيع العرب، كانت تفيد الحركة الفلسطينية بأكثر ما تفيد الدولة الأردنية...أما اليوم، وبعد وصول الإخوان إلى سدة الحكم في عدد من الدول العربية أو مشارفتهم على ذلك، وبعد سقوط الرهانات على "استئناف المفاوضات” ومحاولات "بعث جثة عملية السلام وهي رميم”...فإن هذه العلاقة ستكون مفيدة للطرفين معاً، وربما بالقدر ذاته...الأردن سيستفيد أيضاَ من دور نشط لحركة حماس في معالجة أية انحناءات وانعطافات في علاقاته مع "دول الربيع العربي” وفي مقاربته للأزمة السورية، التي يلعب إخوان سوريا، دوراً رئيسا فيها، سلماً وحرباً.
وسأذهب لاقتراح عرض فكرة فتح مكتب سياسي/ إعلامي لحماس في عمان...لا يتدخل في شؤون الأردن الداخلية، ولا يمارس أي شكل من أشكال "الجهاد” ضد إسرائيل، وبصورة تحفظ الأمن الوطني الأردني أولاً وأخيراً...وأقترح ألا ننتظر طلباً من مشعل أو الوفد المرافق بهذا الصدد، أقترح أن تأتي المبادرة الانفتاحية من طرفنا...مثل هذا الأمر من شأنه تخفيف قبضة "الدول المضيفة” على الحركة، وهي عديدة، وذات أجندات مختلفة...ومن شأنه أن يحدث اندفاعة مطلوبة في العلاقات الثنائية ويوفر فرصاً حقيقية لتطوير هذه العلاقات بما يخدم مصالح الأردن وفلسطين على حد سواء.
بعد "فك الارتباط التنظيمي” بين إخوان الأردن وفلسطين، ليس لأحد أن يقلق من مغبّة تدخل حماس في شؤوننا الداخلية...وبعد جنوح الحركة لتبني برنامج سياسي أكثر واقعية، يجب أن تتبدد المخاوف والتحسبات وإلى حد كبير، وبعد انفتاح الغرب والعالم وكل العرب، على الإخوان والإسلام السياسي، لا يجب أن نكون نحن آخر من يفعل ذلك، علينا أن نكون أول من يفعل ذلك، انسجاماً مع إرث تاريخي ممتد، وأملاً بمعالجة بعض استعصاءات عملية تحولنا الديمقراطي كذلك، والمتمثلة أساساً بالعلاقة غير المستقرة بين الحكم والإخوان في الأردن.
وكما قلنا في عشرات المرات السابقة، فإن العلاقة الطيبة مع حماس لا تعني قطيعة أردنية مع فتح والسلطة والمنظمة والرئاسة والرئيس عباس...نحن لسنا أمام "لعبة صفرية” يربح فيها طرف بقدر خسارة الطرف الآخر...نحن أمام معادلة "رابح – رابح” بامتياز...علاقات جيدة مع حماس، تقابلها علاقات جيدة كذلك مع السلطة والمنظمة والرئيس.
مثل هذا الاتزان والتوازن في علاقات الأردن مع مختلف المكونات الرئيسة للشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، من شأنه تمكين الدبلوماسية الأردنية من خدمة أغراضها بطريقة أفضل، إذ يوفر لها هامش مناورة واسع، ويعزز قدرتها على "الوساطة” و”التجسير” و”المبادرة”...القطيعة مع حماس طوال أزيد من عشرية من السنين، كانت بمثابة إطلاق النار على القدم، حيث فقدنا القدرة على التدخل النشط في عدد من الملفات المهمة، تاركين الأمر لمصر قبل وبعد الثورة، ولقطر وتركيا، وكل من أراد أن يجرب حظّه و”دوره” على ساحة القضية الفلسطينية.
زيارة مهمة بلا شك، نأمل أن يتعامل معها الجميع من منظور "الصورة الأكبر” في المنطقة، وليس من زواريب "السياسة المحلية” واعتباراتها الض