الهِدَايَة التِي يَرْجُوهَا البَــــشَرْ


كم كنت أتعجب من أحد اساتذتي الذين أحترمهم كثيرا و هو ينهي محاضراته بكلمة: "... يَا الله اِهْدِنـَـا..." لكنني و بعد تفكير طويل، و بعد محادثة مع أحد احبائي الذين اشتاق إليهم كثيرا، قررت أخيرا أن أحاول فهم سرّ هذه الكلمة، التي هي "الهداية" و التي جعلت أستاذنا المحترم يضعها عنوانا لخاتمة محاضراته الشيّقة قولا و فعلا.
لكنني و بعد التفاتي يمينا و شمالا، وجدت أنّ الهداية فكرة تقترب من التقديس في مجتمعنا أكثر من الرمزية، فكثيرا ما جُعلت هذه الكلمة تخدم معاني أسماء اختارها الآباء لبناتهنّ، فهو اسم رُكب بعناية من طرف صنّاع في اللغة العربية تجعلنا نرفع له القبعة و لا ننزلها إلا على رأس المعنى الذي أراده.
الهداية هي نوع من النور، و للبشر حق الاختيار في ما بين الأنوار، و المقصود هنا بالأنوار: نور العلم، و نور الجنان، و نور كاسر للظلام، و نور الحق... و لنا الوقت الكافي لعدّ أنواع الأنوار كما يشاء القارئ، لكننا سنقف جميعا وقفة جلالة و إكبار لكل الأنوار، سواء الدنيوية أو غيرها لأنها نعمة لا يختلف حولها ضدان، حتى انّ أجمل فترة عايشتها القارة الأوربية سميّت بعصر "الأنوار" اعتزازا و مجدا.
أيها المهتدي نحن نطمع في هداك، أيّها الصالح إن كانت لك القدرة على هدايتنا فأهلا و سهلا، البشر ضعيف أكثر فأكثر، و نحن نطمع في نعمة هي ما تزال مخبأة في اعماق أسرار الحياة.
لكن هذا المصطلح ارتبط في الكثير من الثقافات بالدين، فالله سبحانه و تعالى هو الذي يهدي البشر إلى السبيل الصحيح، و هو الذي سطر الكون لخدمة نفسه قبل خدمة الإنسان، فكل ما هو على طبيعته هو متمتع بمظاهر الهداية السمحة.
فالهداية هي بمثابة القصر الفضي الذي بناه رجال الزمن، أين جفت الأقلام، و تكلم القدر، فحيث نبني الأحلام، تموت مقاصد البشر، و على الصفحة البيضاء نخط حروف العمر، فيضحك لأجلها الربيع، و يبكي من ضحكاته القلب المشفَق عليه، فيظهر الصبح حاملا بين كفيه نوعا من الأمل، لكنه لا يكفي عاشق المجد، و لا يشفي غليله من الطموح، فالمتمرد على القوانين ولد في ثانية، و هو الذي اختار نور رفيقة للعمر، فهذه أيضا من سخرية القدر، أن يجد الإنسان نفسه معلقة بأمل أقرب إلى الوهم، لكن المتمرد لا يتعب من أحلام تراوده ليلا، فيتذكرها صباح اليوم التالي. و يعمل من أجلها كل قواه العقلية و الجسدية، فالفرد الفار من الواقع كثيرا ما يجد ذاته المسكينة تبحر به من أجل الترفيه عليه، لكن الهداية إلى الطريق العام لكل اختيار من طرف أيّ إنسان هو ما يُعجز لسان أياً كان.
المتمرد بحث عن هدايته في الكتب، و بين صفحات الفضاء الافتراضي، كما أنّ بحثه امتد حتى إلى كلمات نور الساحرة على الرسائل القصيرة، و كم أوقعته هذه الأخيرة في الحيرة المربكة، و كم لعبت بخياله الفياض، لكن بين الخيال و الواقع شعرة رفيعة تدغدغ المشاعر بين اللحظة و الأخرى دون ان يحس المتمرد بها.
فـمتمردنا ليس كغيره من المتمردين، إنه إنسان حساس جدا رغم أنه لا يظهرها أبدا، إنه يبدوا قويا في أغلب الأوقات، و هذا ما يظهر في احترام أعدائه له، رغم أنه كان لهم أشدّ من السوط في يد جلاد، لكنه يسمع كل هذا و يعتبرها من المجاملات، فالحسابات تختلف حين ننظر إلى خريطة العيش، أين تولد رغبة في الكسب حتى ولو كان على حساب المشاعر و المبادئ و الأحاسيس، إنه الضياع الذي أدخل بني آدم مراحل متقدمة من ضياع الضياع، فالبراءة في هذه المساحات هي الحَكـَم، بينما الرجال تستدعي جانبها العنيف من أجل الابقاء على الحبل الذي يكاد يتمزق من شدة الألم، فيا أيها المتمرد عفوا، نحن نعتذر! عن دخولنا أحلامك دون اذن منك، ما كان علينا فعل هذا، إنها خطيئتنا و نحن نتحمل كامل المسؤولية، هكذا صرخت الأجراس، و هي تعزف أصوات الهيبة القوية، فهي كلمات تعبر عن حال العطف على من أحب حياته، و أحب نور حياته، فلم يجد طريقا يوفق بينهما معا، و هذا الأمر أدخله في جحيم من نوع راق جدا، فيجرحه في مرات، و يعالج كدمات رغباته على فترات.
أيها المتمرد المثقف هل وجدت اجابة عن حالك في فكرك؟ فأنا لا أعتقد على سبيل الظن أنك أجبت على فتات حيرتك التي تكاد تقتلك، إنها بمثابة الجناح الذي كسره الراهب عندما طلبت منه المساعدة، لكنّ هذا الراهب ساعدك على المعاناة الأنيقة، فزاد جرحك ملحا، و أخفى قارورة الدواء بين طيات نفسك المتهالكة، حتى أنّ عيْنا نور لم تجبك عن كل أسئلتك، فيا لك من مسكين الروح قبل أن تكون سيّد العارفين، فيا أيّها القيصر الصامت هلا تكلمت، و حتى و لو تكلمت فهلا أفهمت، و حتى ولو أفهمت فهلا كنت صريحا.
فعندما يتيه المقصود، يتمسك الفرد بما بقي له من معاني الهداية، إنه يعتبرها احدى طرق الشفاء، خاصة و أنّ الضمير كثيرا ما يصرخ لما يسمع صوت العناد على الشرّ، يا الله اهدنا...!
إنها من الألغاز التي لم يفكها حتى الآن أيّ بشريّ، فالبشر يبحثون كلهم عن ذلك الشعور الجميل، الذي يبعث جوا من الراحة في النفوس، إنه الشعور بالراحة عندما نتأكد من أنّ مسار حياتنا يسير في طريق مريح، إنها جملة مشاعر تختلط في قالب الصواب الذي يدعى بـ: "الهناء" و هنا نحن نسأل نور الرأفة على قلب متمردنا العزيز على قلوبنا، إنه المتمرد الوحيد الذي يحاول بلوغ المجد من بين شبان جيله، بينما هؤلاء يطلبون الدنيا، فيا نور هلا أبديت نوعا من العطف على من أحبك دون أن يلمس شيئا منك !!!! 
و من الثواني التي لا تُنسى، ثانية بلوغ الدمعة وجنتيْ وجه المتمرد، إنه يذرف دموعا تشبه دموع نبيّ المسلمين محمدا صلى الله عليه و سلم على فراق أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رحمها الله، إنها الدمعة نفسها التي تنزل من العيون عند فراق الأحبة، لأنها دمعة تنزل أثناء لحظة عجز حقيقيّ، إنها دمعة تؤكد إنسانية المتمرد، فهو الذي كان قويا، و ما يزال قويا و سيبقى كذلك، على الرغم من دموعه، يا الله اهدنــا....
فحين يبلغ الأسى مبلغ الانفجار، يتذكر المتمرد أنه عصيّ عن الانشطار، إنه أشد صلابة من الصخر الذي يتفجر ليخرج منه الماء، إنه بطل من وزن العظماء، إنه المتمرّد بكل ما يحمله هذا اللقب من معاني.
و من أسعد المراحل الذي جعلت المتمرد سيّد زمانه تلك التي أخذت بيده إلى الأمام، متجاوزا بذلك نهر الأمراض النفسية، فلما ينعزل بينه و بين نفسه تخطر بباله كلّ ما يجعل الإنسان يبتسم، حتى أنه يضحك كمجنون فخور بجنونه، فهذه المواقف تجعله يظهر جوانبه الرائعة، و تعيد فكرة جمال الحياة إلى ذهنه الذي أصبح يئنّ تحت ضربات الواقع القوية، فنحن ما نزال نؤمن أنّ الحياة التي تزينها حقيقة وجودنا، و حرية اختياراتنا، هي أجمل و أقدر على تزيين أيامنا بما نتمنى حدوثه. فحتى أثناء استقبال موت عواطفنا فإننا نتلقى العزاء من استمرارية بقائنا. لأنها عملية ترميم لكل ما هو قادر على حفظ الإنسانية، فهي تستمد قدرتها على المرور من قدرتها على هدم الصعاب، و بالتالي تبدوا الهداية فكرة قابلة للصناعة، لا للتبني، لأنها كغيرها مما يراود الإنسان، إنها أجزاء سيكولوجية تُجمع تحت راية الجرأة اللطيفة.
و إن اختلف العقل و الايمان فهما صديقان حميمان يسعيان إلى رفاهية البشر، فلكل منهما قواعد مختلفة في ضبط و تثبيت المعارف و المحاور السعيدة، لكنهما يشتركان في اهتداء الفرد إلى هداية المسار الذي نشعر بأنه يقودنا إلى العراقة، إنهما جزءان لا ينفصلان عن نفسية متمردنا الأنيق.
و في أعسر الأوقات لا بد من أن نجعل الهداية في قلوبنا التي لطالما نزفت، فالدنيا لا تجعل من الضعيف ناجحا، إلاّ إذا حوّل ضعفه إلى محرك لا يعرف العودة إلى الخلف.
فأن تقضي حياتك في دعم ما تؤمن به لفكرة الأفكار، التي تأخذ من التقديس حب الجبروت، و من النبل شرعية العمل على تحقيق الهدف، لأن الإنسان الذي يهدف إلى اسعاد نفسه قبل اسعاد المقربين ليستحق الاحترام. فالنفس أحق بالتدلل على صاحبها، إنها هبة من الله و هي التي لها كامل الحق في أن تجد الهناء بين أشلاء الفؤاد الذي يحتضنها.
و من هنا نجد لزاما علينا العودة إلى مفهوم الهداية على انها نوع من الأنانية الجميلة، لأنها لا تظهر بهذا المظهر لغير مالكها، أو المنتسبة له، فالذي سطّح الأرض هو الذي جعلها من فئة الصفات التي يعتز بها الخلق بالوراثة، و عليه فالناس تحب المهتدي على أنه إنسان صالح دون أن يمرّ بأي امتحان جريء، و هذا ما جعل الهداية آخر ركن من النبل، لكن النبل قد يتحوّل إلى هَبَل دون أن نشعر، و هذا ما يُدخل نوعا من الريب إلى هذه الصفة الراقية.
و رغم كل الشوائب و العوائق و الذرائع و الحوادث و المحدثات، لكن الهداية تبقى من مساعي الناس الراغبين في النجاح، فكل ناجح هو مهتد، و كل مهتد هو ناجح..... فيا الله اهدنــا....!


السَيِّد: مَــــزْوَار مُحَمَّد سَعِيد

ملاحظة:
الأسماء الموجودة في النص لا يعني بها كاتب هذه الأسطر أيّ إنسان، و إنما هي من أجل وضوح المعنى، و مع هذا فالسيّد: مـــزوار محمد سعيد يتحمّل كامل المسؤولية، و يعتذر لحاملي هذه الأسماء، إن بدا لهم أنّ أسماءهم ذكرت في غير محلها.... و شكرا للجميع.