الصورة الأخيرة التي بعثها لنا مجلس النواب مخجلة، لكنها ليست مفاجئة، فهي مجرد واحدة في «ألبوم» كبير اشتمل على مدى عامين على «لقطات» غريبة ومدهشة، أرّخت بامتياز لأداء هذا المجلس وعكست ما يمكن ان يفرزه قانون الصوت الواحد من مخرجات صدمنا بعض نماذجها حتى اصبحنا مقتنعين تماما بأن المشكلة ليست –فقط- في هؤلاء الاشخاص الذين «افزعنا» اداؤهم إنما في المناخات السياسية التي سمحت لهم بممارسة مثل هذه السلوكيات، وقبل ذلك في «قانون الانتخاب» الذي منحهم في ساعة غفلة فرصة «تمثيل» ارادة الناس، هذا اذا افترضنا أن «اصوات» الناس صبت اصلا في الصناديق.
لكن حين تدقق أكثر في الصورة بتفاصيلها التي نقلتها عدسات المصورين، تكتشف أن ما جرى في مجلس النواب ليس معزولا ابدا عما يجري في مجتمعنا، لاحظ – مثلا- كيف تحررت خصوماتنا السياسية من قيمها واخلاقياتها وكيف انحدر مستوى النقاش السياسي بين نخبنا، وكيف تحولت هذه النخب الى «قبائل» متناحرة وكيف انقسم مجتمعنا على نفسه.. كل هذا الذي حدث وخرجت صوره في اقل من عامين يدفعك الى مواجهة سؤال المليون وهو: من فعل بمجتمعنا ذلك؟ وهل هذا جزء من ثمن «تعطيل» مشروع الإصلاح الذي يريد البعض ان يدفنه الى الأبد؟
إذا أردت أن تفهم ارجوك فتّش عن السياسة، حين تنتعش وتلقي بأثقالها واعبائها ستخرج من الناس افضل ما فيهم، وحين تصبح «فقيرة» ومجدبة تتحول الى «كابوس» مزعج، ونحن جميعا –متهمين وضحايا- ندفع ضريبة هذا العبث في النواميس السياسية والوطنية، ولا أدري من يلوم من؟ وما دمنا مستغرقين في المشهد ونتناوب على الصراخ ونجرّب حظوظنا في الاستفزاز والابتزاز كل على مستواه، وبما اتيح له من فرص.
لا شيء يجعلني اشعر بالحزن اكثر من مشاهدة هذا «التناطح» السياسي والإعلامي الذي يدور بين النخب السياسية، صحيح ان بعضه وصل الى درجة من «الاسفاف» لا يمكن تصورها، لكن الصحيح ايضا ان ما في «القدر» تحمله «المغرفة» وان كل أخطائنا تصب في النهاية بقناة مجتمع نشعر جميعا بأنه «تعب» تماما، وأننا حملناه اكثر مما يحتمل، ولا يوجد من يدق الجرس.
المؤسف ان بيننا ثمة من لا يزال يمارس «صراعاته» وحساباته الشخصية، وربما السياسة على حساب البلد والناس وهمومهم ومعاناتهم، وان ضميرنا العام الذي يفترض ان يصحو على موجات الزلازل التي تطوقنا من كل اتجاه لم يصحو بعد، ولم يخرج من دائرة الاستقطابات المغشوشة والاشتباكات الوهمية الى المجال العام، حيث يبحث الناس عمن يبدد لهم مخاوفهم، ويدلهم على الصواب ويفتح امامهم ابواب الثقة والأمل.
هذه –ربما- حالة «عموم البلوى» التي لها فقهها الخاص، لكن فقهنا السياسي ما زال يتعامل معها بخفة غريبة واستهانة، ويا ليت لدينا فقيه واحد يرشدنا الى ما نفعله وسط هذه الحيرة والتيه، ويا ليت ان لدينا «زرقاء» يمامة واحدة لتبصر ما وراء الأفق، وتصارحنا بالمجهول الذي نعرفه ونهرب منه او نتحايل على «رؤيته» .. ياليت!