وقفة متأملة في مخيم ضانا للإبداع الثقافي لأندية المعلمين

اخبار البلد 
بين قمم الجبال العالية الممتدة في الجنوب الشامخ تستظل جنة الله في الأرض مستلهمة اسمها من كثرة الضأن الذي يسكن واديها لتحكي قصة حضارة زهت في العصر الآدومي لنجد الأنباط يتركون بها ما يدل على استيطانهم المكان حيث لا زالت نقوشهم فوق صخور (شقوق الريش ) تبعث برسالة عن حضارة نبطية عظيمة .
وكما قالوا .. من يزور ضانا سيجد الطبيعة البكر تشرع ذراعيها مرحبة بأبناء الوطن كي يتغزلوا بحورية الجبل ناهضة في السفح الأشم مطلة على وادي ضانا الساحر الخلاب حيث وجود أسمى العجائب الجيولوجية في العالم المحاطة بالأشجار القديمة قدم المكان .
وأما الحيوانات فهي جزء من المجال الحيوي وهي تتنوع لتثري منظومة جمال المكان .. وللنباتات قصة أيضا فبعضها لا يوجد إلا في ضانا وبذلك استحق أن يطلق عليه اسمها.
اختار المعلمون الشعراء والكتاب ضانا لتتاح لهم فرصة اكتشاف المكان والتعرف على جماليات إنسانه وجغرافيته وتاريخه.. وليعرفوا كيف تكون البداية مذ بارحت رحابهم الجميلة ارض ضانا المسكونة بحكاياها الجمالية ليرتووا بحبها حتى الثمالة ففيها عوالم أحلامهم ومتكئا يطيب فيه جلوسهم تحت ظلال أشجار السنديان واللزاب والعرعر والبطم وينعموا بالتطلع للضفاف الجميلة والقمر حين يسلط أضواءه على سطح المكان ليلمحوا وجدانهم وأصواتهم العذبة تنساب دافئا وهم يتسامرون تحت ضوئه وقد افترشوا الرمال يسردون الحكايا ويستعذبون أحاديث الغرام والوطن يعلوهم أصوات مثقفه وعاشقه للأدب تشدو وتترنم بأبيات جميله .
ضانا سحر المكان ولغز الزمان توقد شمعة الإبداع في سماء الوطن بمبادرة طيبة مباركة من نادي معلمي الطفيلة متبنياً الفكرة منطلقا نحو الإبداع في المخيم الإبداعي الأول لأندية المعلمين في خطوة تهدف إلى توفير فرص التلاقي والاحتكاك بين المبدعين في مكان يلهم سريرة الكتاب والشعراء بمشاركة أدباء وكتاب وشعراء من مختلف أرجاء الوطن .
نسلم أن التجربة رائدة وفريدة من اجل اكتشاف المكان وتخليده في الذاكرة الأدبية والفنية لفئة مبدعة من فئات مجتمعنا الأردني ، إضافة إلى استلهام المكان بفضاءاته المفتوحة في النصوص والكتابات من وحي أجواء ضانا.. ومنح فرصة التأمل في ما وراء الطبيعة في مكان من ربوع الوطن يتمتع بقيمة جمالية وثقافية فكانت التجربة ناجحة من خلال تهيئة الأجواء للمشاركين للإبداع والتعايش مع المكان والتواصل مع كافة الذين صنعوا تاريخه وتراثه عبر القرون، ولتفاعل المبدعين فيما بينهم، بهدف الوصول إلى أعمال إبداعية تحيي ذاكرة المكان وتعيد حضوره ثقافيا وتعمل على حفظ تلك الذاكرة .
الأصوات الشعرية التي تغنت بأجمل ما لديها حملت رسالة التأصيل فكانت تلك الشذرات من قصائد تقرأ ملامح الإنسان في مرايا النقاء إلى معنى آخر غلبه الايقاء الشجي ، ليصدح الصوت الشعري ويدوّى ما بين الشعر الشعبي و العامودي والنبطي وبألوان متعددة
وكثيرة هي الأصوات الشعرية الأردنية المخبوءة في طيات القرون تترقّب روحا ممسوسة بأريكيولوجيا الشعر كي تعيد بعثها في مدارات اهتزاز اللفظ والمعنى والغرض، وتصبّها في نهر الشّعر العربي كقيمة تراثية وثروة أدبية عربية أصيلة مثل حال الشاعر النائب المحامي محمد الشروش ابن الجنوب الوفي .. بصوته الهادئ الشجي انشد أجمل ما عنده من القصائد توسدت في ذاكرتنا لتحكي قصة كفاحه الطويل وصفت كثيرا من تلك التجارب الشعرية الرائعة والتي تخلدت بين جوانحه .. حكى لنا ابرز ما في ذاكرته .. فكان حضوره واضحا وكنا ننتظر لحظة بلحظة اعتلائه منصة الشعر لنطرب لتغنيه به .
أما كاتبنا وأديبنا الأستاذ محمود الشمايلة لديه أحاسيسه المرهفة وكلامه العذب وعزفه المنفرد الذي يخاطب الروح بالرغم من انه لم يحصل على دراسات أكاديمية أو علمية في الموسيقى إلا انه أفضل من عزف على أوتار القلب قبل أوتار صديقه العود فأتحفنا بجلسات نغمية مسائية شجية عبرت عن احترافه للغة العود ودندناته ليقنعنا انه يتعامل مع الأغاني والأناشيد الشعبية وكتاباته النثرية والأدبية بحساسية نادرة وبإبداع واضح ويزاوج بينها بمهارة عاليه ربما لا يوازيه في هذه الموهبة إلا القليل . فتارة يسمعنا ألهجيني وتارة يسمعنا القصائد الخالدة من مكنون الأدب العربي وتارة يعتلى المنصة ليطلق العنان لقريحته بإسماعنا تحفا من نثرياته وأشعاره التي خاطبت وجداننا جميعا .
أما الأستاذ بهجت الحجاج ولأنه ولد وتربى في أجواء الحب والاصاله والجرأة ، وشب على حلقات المعرفة .. جاءت معظم قصائده وأشعار تربطه بها علاقة عشق ووجد .. فهو من أصحاب الطلة البهيه التي لم ينافسه بها احد .. يملك قلبا كبيرا ملئ بحب الوطن وناسه ولهذا يكثر في أشعاره الحنين.. ونفس الروح والمشاعر والعاطفة القوية فالمبدأ عنده هو روح القصيدة ولا شئ غير ذلك .. أعطى بدون كلل .. كان تواجده مميزا , يشارك الجميع إضافة انه يملك صوتا صداحا فاجأنا به .
أما شاعرنا الفذ سعيد يعقوب فالمفارقة أن القصائد التي انشدها على مستوى عال من حيث معانيها وأفكارها وما فيها من روح وفلسفة ..سعيد يعقوب ذو تركيبة فريدة في شكل وطريقة نظمه وإلقائه .. فهو يضم الفكر والعلم والتراث الشعري العميق والمتنوع حيث أن القاسم المشترك بينه وبين شعره هو الإحساس العميق بالكلمة، والإحساس بالشيء نصف فهمه، أما النصف الآخر للفهم فيأتي من الإلقاء لذلك كان ليعقوب مدرسته التفاعلية فهي التي تصنع خصوصيته، أو ما يسميه بالحالة التي يشاركه فيها الجميع فكان أقرب إلى جلسات العلاج النفسي أو رحلات السمو الروحاني لان طريقته تجذب الجمهور وترهقه، وتسيطر عليه تماما .
وشاعرنا الأنيق الأستاذ محمد الدومي فله حكايا مع الشعر .. يعشق ساحته ويحمل عبئها .. متمكن .. رمزاً من رموز الشعر الأردني .. له حضوره المميز.. لا يكل أو يمل من التواصل الدائم مع الشعار .. نجده حيث يستقر الإبداع .. بشوق كبير اطرب خلجات قلوبنا بعذب الإلقاء .. فاستقرت محبته في قلوب الجميع .... وحظي باحترام الجميع .
شاعر الياسمين الأستاذ علي الشوابكة نلقاه في وهج كل شعاع .. يقول للإبداع مهلا لون وثيقتك لون الياسمين ليزين خيوطه بالبهاء .. كتب فأبدع عزف أجمل الألحان حقاً كلمات أقرب إلى العزف استمتعنا بها إلى أخر حرف حلق في السماء ونثر معاني سامية راقيه صادقه كيف لا وهو صاحب القلم الماسي وعازف الكلمات والإحساس فبكلماته الساحرة أبحرنا في أمواج حروفه لنرسوا بالنهاية على شاطيء معانيه لأنه يملك نفس صافية وإحساس صادق .
أما صوت الشعر النبطي فكان له حضور قوي عبر شاعر المليون الأستاذ مهند العظامات الذي حمل خصوصية الشعر النبطي الأردني إلى الفضاءات العربية عبر برنامج شاعر المليون فحين يقرأ نصوصه تشعر انك تحررت من أسر الجغرافية ووجدت نفسك في أقطار عربية متعددة.. ليؤكد أن هوية الشعر النبطي الأردني عربية .. فقد أعاد تاهات الشعر وشدّ حبال الصوت الشعريّ النبطي الأردني كي يصدح في آفاق الضاد بالقوة التي تدفع إلى إعادة اكتشاف خارطة الإبداع الشعر النبطي الأردني عربيا .

وما أروع ما قاله الشاعر الذي يغرق ذاته في كيان الكلمة العميقة الصارخة انه الدكتور هشام القواسمه فمن الصعب الولوج كثيرا" في أعماقه شاعر من نوع آخر إنسان من نوع آخر ما يكتبه ليس من وحي الخيال او أوراق أحلام بل هو دم الواقع وترجيديا الألم وبراكين المواجهة. ..إبداعه وحضوره البهي واشراقاته في نصوص تتدافع كنهر جارف ..يعيش معاناة شعب يحمل صدى الثورة والطموح العربي وجعه وانينه وصراخه تسابق الزمن من شدة اندفاعها نحو مقارعة الغاصب المحتل وثورته الكبرى هي قضة العرب الأولى ..لا يخرج من ذاته إلا ليعود إليها كي يحمل القضية ويجعل مساحتها الكون .. رسالته وطنية بامتياز وثقافية بسمو ورفعة . نقدر قلمه البارع والحساس المتقدم نحو مجد الشعر والقضية..
وعند الشاعر أيمن الرواشدة فان الكلمة مهما كانت مرتبطة بالواقع فهي وليدة التشكيل التخييلي وإعادة تركيب الواقع من وجهة نظر شعرية. ذلك أن الخيال هو الذي يجعل المبدع يقدم لنا عالما جديرا بالحياة، خصوصا إذا كان هذا العالم عالما شعريا. أما الصدق والمقصود هنا هو الصدق الفني، فلا وجود للشعر القوي في غيابه. إنه هو ذلك السر العميق الذي يحول الشعور الداخلي إلى كلمات نابضة بالحياة. من هنا كان كلامه من الأعماق والذات لأنه على قناعة تامة بان الصدق والخيال هما جوهر الكتابة الأدبية وفي مقدمتها الكتابة الشعرية.
شاعر الجرأة والحصافة النشمي الأستاذ سالم البديرات يجسد أحزانه شعراً وحباً للوطن له مزاياه الخاصة ومدرسته الشعرية، كان أكثر بروزا في شعره الاجتماعي المتحرر، وفي شعره السياسي الجريء عرف بتحرر عقله وصرامته ولكن طبعه الفلسفي غلب على شاعريته التي أبت مع ذلك إلا أن تظهر في كثير من ومضاته العاطفية القوية والتي خاطبت ضمائرنا جميعا
الأستاذ الفاضل الشيخ الجليل إدريس الرواشدة غلب علي شخصيته الطابع الملتزم غير أن اهتماماته بالکتابة النثرية تظل ملمحا مهما في مسيرته الثقافية وله نظريات وآراء تتضح مقالاته ودراساته .. يحمل الهم الاجتماعي وقضاياه وهذا المنحني وأن ظل يحمل صبغة خاصة فهو مؤشر علي نبض أحاسيسه وعلي متغيراتها المختلفة يمتاز باجتهاداته بحكم ثقافته الدينية ويؤخذ علية انه يميل إلى الهدوء والإقلال
لم يبقى لدينا سوى الأستاذ الكاتب المبدع مطلب العبادي الذي امتاز بفن كتابة السيرة الذاتية إذ حاول أن يعرض من خلالها تجاربه الحياتية بايجابياتها وربما بسلبياتها ..من أجل الاستفادة منها وأخذ الدروس والعبر. فجاء كتابه "مواقف وخواطر في حياة معلم" ليقدم حصيلة تجربة تربوية لعل فيها الفائدة لأجيال المعلمين الشباب.كتاب إذا مسكتة من أول حرف فيه لا يمكن أن تتركه إلى أخر حروفه .. حقاً..إن الأستاذ مطلب صاحب تجربة أدبية قل نظيرها فكان له حضورا مميزا .
وأخيرا دعوني أقول إن ضانا هي عزلة الوجع المتألم بكبرياء الصمت.. انفلتت "الكلمة" من دفاتر الكلام الذي يقول والذّي لا يقول، وأحدثت رجّة في جسد ملتقانا ، فبعثت بعض الحياة في الخمول الثقافي وحفزت الكتّاب والشعراء والأدباء المعلمين أن يمدّوا الخطى بالوثوق الذي تستلزمه مسالك الوصول إلى الغايات النبيلة. استثارت معلمين مبدعين من قبو النسيان واحتفت بأسماء لها تاريخها في العطاء الأدبي والإبداعي الأردني ، فرسمت جغرافية للأدب الأردني لا مفاضلة فيها لمنطقة على أخرى.. واستطاعت أن تكون جمعية الكلمة للثقافة والأدب بامتياز على يد ثلة من معلمي الوطن الغالي
دعوني اختم بما قالته الشاعرة ريم مدانات عند زيارتها لضانا : ـ
أخـال وجـودي في ضانا اللحظــــة الأولى لبديء العمــــر
مع تحياتي
الكاتب : فيصل تايه
البريد الالكتروني : Fsltyh@yahoo.com