اذا اردت ان ترى بعينيك مآلات «العناد» السياسي وتكاليفه الباهظة التي يدفعها الناس، فتأمل – ان كنت من ذوي القلوب التي لا تخاف- صور «البؤس» التي تطالعك بها اخبار «اللاجئين» السوريين في المخيمات او المنازل التي اقيمت لهم على حدودنا الشمالية او تلك التي تقع على الحدود التركية.
لقد روى لي احد الزملاء الذي زار مؤخرا هذه المخيمات قصصا مفزعة عن احوال الناس الذين وجدوا انفسهم –فجأة- في ظروف قاسية لا تحتمل، لا تسأل ارجوك لماذا هرب هؤلاء من بيوتهم؟ ولا لماذا عجزنا عن توفير ما يلزم من مساعدات؟ ولا لماذا «شحّت» عليهم موارد المنظمات الدولية المعنية باللاجئين؟ ولا تسأل ايضا عن الوجه المضيء الآخر الذي عبّر فيه بعض «الاردنيين» عن افضل ما لدينا من خير وعطاء.. تلك اسئلة مفهومة يمكن ان تخضع للنقاش وللأخذ والرد.. لكن المهم –هنا- هو سؤال «اللجوء» تصوّر ان آلاف الاشخاص وجدوا انفسهم امام واقع لا يمكن العيش فيه، فقرروا ان «يهجروا» مساكنهم خوفا على حياتهم او شرفهم او كرامتهم، وأن يتحولوا الى «لاجئين» على مرمى حجر من وطن تركوه يحترق.
يا إلهي، اية جريمة هذه يمكن «لنظام» سياسي ان يرتكبها ثم يدعي بانه ما زال صامدا في وجه «المؤامرة» الكونية؟ اية اصلاحات يمكن ان تقدم ثم تقنع هؤلاء بان يعودوا الى بيوتهم آمنين؟ اي «عاقل» يمكن ان يستبد به «العناد» ليدفع شعبه الى الرحيل من اجل ان يبقى ممسكا بزمام «السلطة».
صحيح ان الشعب السوري العزيز يدفع الآن ضريبة «الثورة» وهي ضريبة باهظة الثمن، وصحيح ان الولادات تسبقها مخاضات صعبة وعسيرة، لكن الصحيح ايضا هو ان «العناد» السياسي يتحمل المسؤولية الكاملة لكل ما حدث لهؤلاء الابرياء، ما ضرّ النظام هناك لو انصت لأهالي درعا واطفالها حين طالبوا بالحرية والإصلاح؟ ما ضرّ الطبيب القائد لو استخدم «مشرطه» لازالة «الورم» السياسي الذي اتعب الشعب قبل ان يتحول هو نفسه الى «طبيب» قاتل، وقبل ان تسيل كل هذه الدماء لتغطي اجساد السوريين وتدفعهم الى البحث عن «النجاة» حتى لو تحولوا الى «لاجئين» تنهشهم الغربة ويقتلهم العوز وتسفح وجوههم البريئة رمال الصحراء.
لا يوجد في وطننا الكبير اي مواطن عربي يفكر مجرد تفكير في ان يكون «ضحية» اخرى تتقاسمه «المخيمات» الموزعة هنا وهناك او ان يكون «فزعا» باتنظار رجال «الميليشيات» المسلحة الذين حوّلوا ليبيا العزيزة الى «ملاذات» غير آمنة للصراع على السلطة او ان يتحول الى مجرد «كرة» تتقاذفها اقدام النخب البديلة كما يحدث الآن في اليمن.
هذا –بالتأكيد- ليس هجاء او ذما للثورات العربية، فالشعوب التي خرجت لاسقاط انظمة عانت من فسادها واستبدادها لم تجد طريقا اخرى غير هذه لرؤية «النور» في آخر النفق، وقد قامت بواجبها وانتزعت حريتها، لكن الثمن كان باهظا، ما علينا نحن الذين ما زلنا نبحث عن الطريق للاصلاح لو تأملنا في الصورة، وتعلمنا من الدروس وخرجنا من دوائر «العناد» السياسي، ومن لعبة «الطماية» التي انكشفت وذهبنا –بقليل من التنازلات وبكثير من التوافقات- الى كلمة سواء.
صورة «اللجوء» وقبلها صورة «الميليشيات» المسلحة وصورة صراعات النخب على انقاض مجتمع جرى تدميره تكشف امامنا البديل الذي يمكن ان نطرحه ونلتزم به، فهذه الصورة ليست فزاعات يمكن ان تُرمى في وجوه الناس، ولا ذرائع لتعطيل الاصلاح وادامة «العناد» والانكار، وانما حقائق تحولت الى جرائم، تتحملها انظمة سياسية اعلنت الحرب على شعوبها وما تزال تنتقم منهم.. اما البديل فهو الاصلاح، هذا الذي سيجنبنا كل هذه الكوابيس المفزعة التي لم نتوقع ان نراها حتى في المنام.