هي اللعبة ذاتها تتكرر بعد مرور "دزينة” من السنوات العجاف، يومها خرج الرئيس الأمريكي بيل كيلنتون من "كامب ديفيد” ليعلن مسؤولية الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عن فشل "آخر فرصة للسلام”، بعد "العرض السخي والذي لا يقاوم” الذي تلقاه من إيهود باراك والمفاوضين الإسرائيليين.
اليوم، يعبر الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى محدثيه من "أرثوذكس” اللوبي اليهودي، عن خشيته من "أن عملية السلمية قد بلغت طريقاً مسدوداً” وأن "الرئيس الفلسطيني محمود عباس غير جاد في التوصل إلى تسوية مع إسرائيل”، طبعاً.. بعد أن قدم أطروحة طويلة وعريضة للدلالة على حرصه غير المسبوق على أمن إسرائيل وتفوقها، وقبوله تمويل مدارس الأرثوذكس الدينية في إسرائيل.
في غياب الرواية الفلسطينية عن "مجريات كامب ديفيد”، أو تأخر صدورها لفترة طويلة، انطلت على كثيرين "حكاية” أن باراك كان سخياً جداً مع الفلسطينيين، وكما لم يفعل أي رئيس وزراء من قبل، لنكتشف بعد ذلك، ويكتشف المنصفون من قادة العالم ونخبه، أنهم كانوا أمام "أكذوبة” من طراز فريد، وأنهم كانوا عرضة لواحدة من أكبر عمليات "الخداع” السياسي والإعلامي، فلا باراك قدم عرضاً سخياً، ولا عرفات كان مسؤولاً عن الفشل.. الفشل يسير في ركاب إدارات أمريكية قررت أن تضبط خطواتها على إيقاع حركة "اللوبي” وحسابات "نظرية الأمن الإسرائيلية”، هنا الوردة فلنرقص هنا.
اليوم، ولدواعٍ انتخابية محضة، يخرج علينا الرئيس الأمريكي بمواقف وتسريبات، تميل لتحميل الرئيس عباس مسؤولية الفشل الذي أصاب عملية السلام وإخفاق المحاولات الرامية لإقناع إسرائيل بالانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران لتمكين الفلسطينيين من بناء دولتهم المستقلة، مع أن أوباما نفسه يدرك تمام الإدراك بأن المسؤول الأول والأخير عن فشل هذه العملية، هو حكومة بينامين نتنياهو، التي أطاحت بكل وعوده وتعهداته، من وعده الأول في جامعة القاهرة باعتبار وقف الاستيطان شرطاً لاستئناف المفاوضات، إلى وعده الأخير بالاعتراف بدولة فلسطينية حال عرضها على مجلس الأمن، وفي المرتين، وما بينهما وما بعدهما، بدا رئيس أكبر دولة في العالم، هدفاً سهلاً لسهام الابتزاز من قبل نتنياهو وحلفائه داخل الكونغرس والإدارة ومؤسسات صنع القرار وجماعات الضغط.
هل يصدق أحدٌ بأن عباس هو المسؤول عن فشل هذه العملية، ونحن الذين طالما أخذنا عليه، أنه جعل من خيار المفاوضات وعملية السلام، مبتدأ الجملة الفلسطينية وخبرها، وأنه حوّل "خياره” هذا، الذي لا تكاد تجد بين الفلسطينيين من يقتنع به، "أقنوماً ايديولوجيا” لا يأتيه الباطل عن يمين أو شمال.
كنا من قبل نتهم حكومات إسرائيل المتعاقبة بأنها تتبنى نظرية "الفلسطيني الجيّد هو الفلسطيني الميّت”، في سعيها لنفي صفة "الصلاحية” و”الصلة” عن أي قائد فلسطيني أو جهة فلسطينية، قالوا أن عرفات "ليس ذا صلة” لأنه يدعم الإرهاب، وقالوا عن عبّاس بأنه "ليس ذا صلة” لأنه ضعيف في محاربة الإرهاب (والآن لأنه غير راغب في التسوية)، وقالوا عن حماس أنها "ليست ذات” صلة لأنها هي الإرهاب بعينه، لتكون النتيجة بأن ليس هناك فلسطيني واحد "ذو صلة”، وأن "الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت”، لأن الأخير وحده، ووحده فقط، من لا يستطيع على الجهر بالفرض لتوسعية إسرائيل وعدوانيتها وعنصريتها واستعلائها.
المؤسف اليوم، أن الإدارة الأمريكية تنضم إلى "الجوقة الدعائية” الإسرائيلية، وتصب الحبّ مجاناً في طاحونة إسرائيل ويمينها المتطرف، فتحمّل عباس، ما تعرف هي قبل غيرها، وأكثر من غيرها، أن وزره يقع على عاتق نتنياهو وحكومة اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل.
خطورة مثل هذه المواقف، حتى وإن اندرجت في "السياق الانتهازي” لحملة الانتخابات، وما تمليه من خضوع رؤساء الولايات المتحدة عموماً لضغوط اللوبي اليهودي، خطورة هذه المواقف أنها تتحول إلى سياسات و”أسبقيات” في علاقات واشنطن بتل أبيب ومواقفها من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث سرعان ما تبني حكومات إسرائيل على الشيء مقتضاه، وتنطلق في "تطوير” أو "تطويع” الموقف الأمريكي، انطلاقاً من آخر طبعاته، وآخر طبعات هذا الموقف رديئة للغاية، ومنحازة بالكامل لا لإسرائيل فحسب (كما جرت العادة) بل ولأكثر الأصوات تطرفاً وغلواً فيها.
إن كان عباس غير راغب في صنع السلام واستئناف المفاوضات، فمن من الفلسطينيين سيكون بمقدوره أن يفعل ذلك؟، إن كانت إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة، قد عجزت عن التوصل لاتفاق مع عباس وفياض، فمع من سيكون بمقدروهما أن تصنعا سلاماً أو تصوغا اتفاقاً.
نوافق مع الرئيس الأمريكي على أن "فرصة السلام وصلت طريقاً مسدوداً”، وربما كانت هذه هي الجملة المفيدة الوحيدة في لقاءاته مع أركان اللوبي اليهودي، لكننا نرد "الفضل” في ذلك لأصحابه، والمؤكد أن الذين قتلوا فرصة السلام وقطعوا الطريق على "حل الدولتين” ليس من بينهم الرئيس عباس، أنهم يجلسون في البيت الأبيض والكنيست والكونغرس ومكتب رئيس الورزاء الإسرائيلي في القدس المحتلة.