اخبار البلد_ لا يختلف اثنان
مهما كان تصنيفهما له على أن هيكل كاتب ومحلل سياسي من الطراز الرفيع، وقد
سمحت له فترة قربه من ناصر (1952-1970) لأن يكون مطّلعاً على صناعة القرار
السياسي وكيفية اتخاذه، لم يكن القرب من ناصر بالطبع هو العامل الوحيد الذي
هيأ له تلك الأجواء فقد كان واضحاً أنه يملك فكر تقليدياً من نوع فريد،
الأمر الذي فتح الباب أمامه واسعاً للقاء كبرى الشخصيات العالمية في مجالات
السياسة والفكر والمال.
بقي هيكل ما بعد رحيل ناصر يتمتع بنفوذ من يملك دائماً صوابية الرأي
إلى أن اختلف مع السادات على خلفية معارضته لمحادثات فك الارتباط (كيسنجر-
السادات 1974) فقد جاهر هيكل آنذاك بإعلان الخطأ القاتل الذي وقعت فيه
القيادة المصرية التي لم تستطع أن تمسك بأوراق القوة التي حققتها على
الأرض، فأضاعت عن نصرها العسكري في خفايا اتفاقية فك الارتباط وملحقاتها
السرية.
وقد تعرض هيكل على أثر ذلك (وكذلك على أثر معارضته لمعاهدة كامب ديفيد
الموقعة بين مصر وإسرائيل 1979) للاعتقال والترهيب اللذين كانا يهدفان إلى
إسكاته مادام تغيير قناعاته أمراً لا يمكن الوصول إليه بالقوة.
بقي هيكل مفكراً غير متحزب (وهذه ميزة لرجال الفكر) لم ينتم إلى حزب أو
تيار سياسي، وإن كان ميله واضحاً باتجاه علمانية تتمسك بالثوابت الوطنية
التي تحفظ لمصر عزتها وكرامتها.
وقد يقول قائل (وكثيراً ما قيل) إن لهيكل الكثير من العلاقات مع رجال
استخبارات عالميين ومراكز دراسات مشبوهة الغايات والتأثير، ولسنا هنا بصدد
الدفاع عنه فمسيرة حياته ومواقفه كفيلان بذلك، إلا أن العامل المهم في تلك
الأقاويل يكمن في النتائج، فليس مهماً أن يكون لهيكل (وهو الرجل المحصن
فكرياً) الكثير من العلاقات مع رجال استخبارات ومراكز دراسات فهو أيضاً
يقدم ما يماثلها من العلاقات مع الأجهزة الأمنية الوطنية ومراكز الدراسات
الاستراتيجية في القاهرة، كان هيكل يلتقي ويحاور هنا وهناك والمهم في
النهاية إلى أين يتجه ولاؤه؟ ولأي أفرع تقدّم جذوره غذاءها.
لو كان هيكل من أصحاب الفكر الانتهازي لكانت المحاباة الطريق الأقصر
والأضمن لتحقيق غايات ذلك الفكر، ولو كان ممن يسعون إلى مناصب سياسية لكانت
ملك يمينه، ولا أحد يستطيع أن يقول إن هيكل دافع عن نظام من الأنظمة
العربية عدا نظام ناصر ونحن نسوق كل ذلك لنؤكد حياديته في رؤياه لمجريات
الأحداث في المنطقة بشكل عام وإلى الأزمة السورية بشكل خاص.
في الحديث الذي أجرته معه جريدة الأهرام المصرية في 21/5/2012 أثار هيكل
الكثير من المواقف التي يجب التوقف عندها والتمعن فيها، وهنا سنحاول أن
نفعل.
يقول هيكل في معرض تقييمه للعلاقة بين سورية ومصر إنها علاقة خاصة من نوع
ما على طول التاريخ وإنه (لا يتصور أن مصر يمكن أن تقطع علاقتها السياسية
والاجتماعية والثقافية مع سورية مهما كان).
الأمر لا يعدو أن يكون قراءة تاريخية وفهماً دقيقاً للعلاقة السورية
المصرية فسورية كانت الباب الذي دخلت منه المسيحية (القرن الثاني الميلادي)
إلى مصر، وكذلك الإسلام (640م) واللغة العربية التي جاءت معه بل إن سورية
كانت خط الدفاع الأول عن مصر الأمر الذي نجده في مطاردة السلطان قطز لفلول
المغول بعد أن هزمهم إلى ما بعد بلاد الشام (معركة عين جالوت 1260م) وفي
العصر الحديث كان اللقاء السوري المصري 1958 مصدر قلق لإسرائيل ولجهات
خليجية سعت إلى إسقاط ذلك المحور بالمال الخليجي الذي وجد ضالته في جهات
داخلية رجعية قامت بالوكالة بتنفيذ المهمة.
ما كان لهزيمة حزيران 1967 التي لم تزل آثارها وتفاعلاتها ماثلة إلى الآن
أن تحدث لو بقي ذلك المحور قائماً، وفي تقدير أبعد كان يمكن لذلك المحور أن
يدفع (بالتأثير وليس بالتدخل المباشر) باتجاه إحداث متغيرات سياسية جذرية
في دول الخليج التي كانت (ولا تزال) تعيش في القرون الوسطى (تركيبة السلطة
وإدارة قضايا الدولة).
ويقول هيكل: (لست أعرف منطق الذين سهلوا للقاعدة أن تنفذ إلى سورية لكي تنسف وتقتل).
هو المنطق نفسه الذي دفع بالمال لشراء الذمم في عام 1961 تمهيداً لإسقاط
دولة الوحدة، وهو نفسه الشريك في الأحداث الخارجية التي شكلت في عام 2004
وما تلاه ضغطاً سياسياً هائلاً على سورية، بعيد اجتماع بوش وشيراك في
النورماندي عام 2004 وما تلا ذلك من ملحقات كان أحدها اغتيال رئيس الوزراء
اللبناني الأسبق رفيق الحريري 2005 الذي استغل لتحجيم سورية وإضعاف دورها.
والغاية دائماً كانت إسقاط الدور الإقليمي السوري، والمحاولة مازالت قائمة
حتى الآن عبر ركب موجة الاحتجاجات التي شهدها الداخل السوري آذار 2011، وهو
أمر لم تدركه المعارضة السورية (على اختلاف مشاربها) وهي لم تستطع أيضاً
أن ترى أن إسقاط النظام سوف يؤدي عبر التوازنات القائمة الآن.. إلى سقوط
الدور الإقليمي السوري يعقبه دخول في متاهة تجعل من السفارات الأجنبية
أماكن صدور القرار السياسي السوري، ما يعيد إلى الأذهان فترة الخمسينيات من
القرن الماضي.
ويضيف هيكل: «إن الحملة على سورية وإيران توشك أن تحول الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع طائفي».
المشروع متكامل وأحد الأعمدة التي يقوم عليها تحويل الأنظار عن الصراع
العربي الإسرائيلي مادام إلغاؤه أمراً مستحيلاً شعبياً فليكن تحويله إلى
صراع عربي- إيراني، حيث يمتلك هذا الأخير وقوداً جاهزاً فمن السهل إضرام
النار فيه، ولا يهم إذا كانت هذه النار لن تُبقي هنا ولا هناك ولن تذر،
يبدو أن أمراء الخليج في قراءتهم لهذا الصراع (السني- الشيعي) يرون أن حروب
القرن الخامس عشر الذي شهد صراعاً صفوياً عثمانياً لم تتبلور نتائجه
بالشكل الذي يُنتج كيانات نقية الأمر الذي من شأنه (حسب تقدير أمراء
الخليج) أن يطيل حكمهم إلى أمدٍ غير منظور، ولا بأس الآن من تتمة هذا
الصراع للوصول إلى تلك النتائج.
إن تجاور الحضارتين الفارسية والعربية لعشرات القرون لم يسجل أي غزو إيراني
لأراض عربية وهو أمر يجب أن يؤخذ بالحسبان في أي حوار مستقبلي يمكن أن
يقوم بين إيران والعرب وهو أمر لا بد من حدوثه طال الوقت أم قصر.
يقول هيكل في خلاصة رأيه عن الصراع الدائر في سورية وعليها: «إن صوتاً من
الماضي لا يزال في سمعي وهو صوت عبد الناصر يوم الانفصال يقول: ليس مهماً
أن تبقى سورية في الجمهورية العربية المتحدة ولكن المهم أن تبقى سورية».
هو الفهم الأدق لحقائق الجغرافيا والتاريخ في المنطقة التي تخلص إلى أن مصر
وسورية مرتهنان ببعضهما البعض، فالمسير إلى الأمام يكون معاً، كما أن
المسير إلى الخلف لا يخرج عن هذا الإطار، وهو في الحالة الأخيرة يصبح أكثر
وضوحاً من الحالة الأولى.
تأتي إشارة هيكل في نهاية حديثه إلى «جهات خارجية تتدخل في الشأن السوري
بما يهدد بقاء سورية» لتضفي الرتوش النهائية لاكتمال اللوحة، ولتكشف
الدوافع الحقيقية لدول الخليج التي سعت إلى التصعيد بشكل يفاجئ الغرب قبل
أن يفاجئ شعوبهم الذين عرفوا أن قاموس قياداتهم يحوي بما يحوي على مصطلحات
«الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» و«العدالة».
ما سبق لا يدفعنا إلا إلى المزيد من التمسك بالقيادة السياسية السورية،
والتغاضي عن كل الأخطاء التي تعود في جزء كبير منها إلى خلل بنيوي في
تركيبة النظام وكذلك إلى بيروقراطية الدولة اللذين يشكلان معاً ثنائية
تعاند النمو وتجعل منه أمراً مستعصياً يصعب التخلص منه أقله في هذه
التركيبة، على أمل أن يكون الخروج من هذا الخلل هو الهدف الأول الذي يلي
تحقيق الاستقرار الأمني الذي يعيد لسورية وزنها وتوازنها.
لقد تماهت سورية الآن مع سلطتها السياسية فهما في نسيج واحد، ولا يحتاج
الأمر لتأكيده سوى التمعن بآراء مفكرين حياديين مشهود لهم بسعة الاطلاع
والوطنية، مفكرين من أمثال محمد حسنين هيكل.