اخبار البلد
منذ اعلن الرئيس المصري المقتول، انور السادات، ان حرب تشرين عام1973 ستكون آخر الحروب العربية - الاسرائيلية، وضع الكثيرون من احرار العرب ايديهم على قلوبهم، وانفتحت صفحة جديدة في تاريخ الشرق الاوسط، وتقاطعت علامتا تعجب واستفهام في فضاء المؤسسة العسكرية العربية، وانطرح "سؤال المصير" فيما يخص الجيوش العربية النظامية، وعقيدتها القتالية، ومقرراتها المعنوية والتعبوية، ومهماتها الاستراتيجية المستقبلية·
ولم يمر طويل وقت على هذا الاعلان الساداتي المشؤوم حتى دارت دواليب المخطط التآمري المتعدد الاطراف والاهداف لتهميش دور العسكرية العربية، وابعادها عن دورها المركزي والقومي في مقاتلة العدو الصهيوني الغاصب والدخيل، واشغال بعضها بمهام وادوار اخرى بديلة، واحالة البعض الآخر على التقاعد، حيث تم عزل الجيش المصري خلف اسوار معاهدة كامب ديفيد عام 1978، واقحام الجيش السوري في معترك الحرب الاهلية اللبنانية بعد تفكك الجيش الطائفي هناك عام 1976، ثم توريط الجيش العراقي في الحرب مع ايران عام1980 حيث تتابعت فصولها لاكثر من عشرة اعوام انتهت بخروج هذا الجيش من الكويت عام 1991، وهو العام الذي شهد تقريباً بداية انغماس الجيش الجزائري في حرب اهلية مع جبهة الانقاذ الاسلامية دامت قرابة عقد من الزمان، فيما انهمك الجيش اليمني في معركة الحفاظ على وحدة البلاد التي حاول بعض قادة الجنوب العدني تقويضها عام 1994، في حين تعرض الجيشان المغربي والسوداني لحروب استنزاف مزمنة وطويلة المدى على ايدي رجال البوليساريو وثوار جنوب السودان·
اما الجيش الاردني الذي شارك جزئياً، عبر الجبهة السورية، في حرب تشرين، فقد وجد نفسه عام 1994 اسير معاهدة وادي عربة التي وضعته خارج دائرة الصراع مع العدو، فيما تولى اتفاق اوسلو عام 1993 ليس تحييد غالبية جيش التحرير وفصائل المقاومة الفلسطينية فحسب، بل اخماد انتفاضة الحجارة ايضاً·
وهكذا ما ان لملم القرن العشرون اوراق رحيله، حتى كانت المرحلة الاولى من المخطط التآمري المتعدد الاطراف والاهداف قد نجحت في لجم آلة الحرب العربية عن مواجهة العدو الصهيوني، وفي اشغالها بالكثير من الهموم والمهام والاهتمامات البديلة، سواء داخل الاقطار العربية او خارجها·· فالمهم، والحالة هذه، هو توجيه البنادق العربية صوب اية وجهة داخلية او خارجية، باستثناء الوجهة الاسرائيلية التي كانت على مدى نصف قرن هي الهدف المركزي للعسكرية العربية·
المؤسف، بل المؤلم، ان نجاح المرحلة الاولى من هذا المخطط الشيطاني قد شجع المدبرين له والواقفين خلفه على التمادي في ربقة التآمر، والانتقال الى المرحلة الثانية التي لا تكتفي باشغال المؤسسة العسكرية العربية بادوار جانبية، بل تتعدى ذلك الى ما هو افدح واخطر، ونعني به العمل على اهانة الجيوش العربية، وتمزيق صفوفها، وشرذمة قواها، واضعاف روحها المعنوية، وافقادها الثقة بالنفس، وادخالها في دوامة من الازمات الذاتية، واصطناع الشروخ والمباعدات بينها وبين شعوبها·
كان لابد من الابتداء بالعراق، صاحب اكبر واقوى جيش عربي في غياب الجيش المصري المعتقل داخل سجن كامب ديفيد، وكان لابد من هجمة امريكية مباشرة عام 2003 لاحتلال العراق واسقاط نظامه، حتى يتسنى لبول بريمر، اول حاكم امريكي لبلاد الرافدين، حل الجيش العراقي، وتشريد جنوده وضباطه، وملاحقة كوادره وقياداته، وحرمان العرب من هذا المارد العسكري الشجاع الذي سبق له ان شارك في كل المعارك العربية قبالة اسرائيل·
بعد عامين فقط جاء دور الجيش السوري الذي اريد له، عقب اغتيال الحريري عام 2005، ليس الخروج من لبنان فقط، بل الانقلاب على نظامه وحكامه ايضاً، بدعوى ان هؤلاء الحكام قد تسببوا له في هذا الموقف المحرج والخروج المهين·· وحين فوّت هذا الجيش العقائدي على المتآمرين فرصة النجاح في مخططهم، عمدوا الى طي صفحات هذا المخطط مؤقتاً والى حين سنوح فرصة اخرى·
ورغم ان حزب الله وحركة حماس لا يمتلكان جيوشاً نظامية، الا ان حلقات المخطط التآمري ضد المؤسسة العسكرية العربية قد شملتهما، امعاناً في قتل روح التصدي للعدو الصهيوني، حيث شهد عام 2006 هجمة اسرائيلية شرسة على حزب الله، فيما شهد عام 2007 هجمة دحلانية مماثلة على حركة حماس في قطاع غزة·· وحين فشلت الهجمتان، وتحقق الانتصار لحماس وحزب الله، رأينا شيئاً عجباً تمثل في تبادل الادوار بين الاعداء والعملاء، حيث ناب العملاء اللبنانيون عن اسرائيل في الاصطدام مع حزب الله عام 2007، فيما نابت اسرائيل عن العملاء الدحلانيين في شن حرب "الرصاص المصبوب" على حركة حماس عام 2008·
مؤكد ان "الربيع العربي" ليس مؤامرة مسبقة الاعداد والتخطيط، ولا هو رجس من عمل الصهاينة والامريكان، وانما هو محصلة ثورية ورد فعل شعبي طبيعي على ايغال الحكام العرب في مهاوي الفساد والاستبداد والاستهتار بالعباد·· غير ان قوى التربص الغربية والصهيونية والرجعية العربية لم تتورع عن التدخل السريع، عبر سلاح المال والاعلام والمخابرات، في صميم هذا الربيع، ولم تتردد في حرفه عن مساره الوطني واهدافه التحررية والديموقراطية كي يتحول الى قوة تخريب للدول، وتهديم للاوطان، وتمزيق للشعوب، واستنزاف للمؤسسة العسكرية العربية وتشويهها وتهشيمها، والتحامل والتطاول عليها، ودق اسافين الخلاف والصراع والشكوك بينها وبين حاضنتها الشعبية وقاعدتها الجماهيرية·
انظروا ماذا يجري للمؤسسة العسكرية المصرية حالياً على ايدي بلطجية الحركات السلفية، "وثوار" مراكز التمويل الاجنبي، وعشاق جنة الليبرالية الجديدة الذين تحالفوا جميعاً لغرض النيل من مكانة ومهابة هذه المؤسسة الوطنية التي خاضت حرب تشرين المجيدة، والعمل على تقزيمها وتحجيمها ورشقها بالكثير من الادعاءات والاتهامات المغرضة، رغم انها رفضت الامتثال لاوامر الرئيس المخلوع بقمع المحتشدين في ميدان التحرير ايام بدايات الثورة، كما انها تعلن صباح مساء هذا الاوان استعدادها الفوري لمغادرة مسؤولية الحكم، وتسليمها لاول رئيس جمهورية منتخب·
انظروا ماذا يجري للموسسة العسكرية السورية، الشريك الآخر في حرب تشرين، على ايدي عصابات رياض الاسعد وبرهان غليون ورياض شقفة وباقي عملاء تركيا والسعودية وقطر العظمى، الذين تحالفوا جميعاً لغرض ارباك وانهاك هذه المؤسسة الباسلة والمسكونة بفدائية الشهيدين يوسف العظمة وجول جمال، والعمل على اشغالها وحرفها عن واجباتها القومية في مواجهة العدو الاسرائيلي، وعلى تنفيذ الشق التآمري القديم الذي عجزوا عن تحقيقه وتنفيذه عام 2005 لدى الانسحاب من لبنان·
اخيراً، هل يتعين علينا ان نلفت الانظار ايضاً الى ما جرى مؤخراً للجيشين الليبي واليمني، وقبلهما الجيش السوداني؟؟ وهل يحق لنا ان نتخوف من ان يأتي على امتنا يوم تقف فيه عارية من درعها المسلح، ومجردة من آلتها الحربية ومؤسستها العسكرية، فيما يمتلك عدوها الصهيوني سادس اقوى جيش في العالم ؟؟ وبعد ذلك، هل يجدر بنا ان نتساءل : اين اصبح الامن القومي العربي ؟؟