الإساءةُ للأطفال ! حين تُنْزع الرحمةُ من القلوب .. !



الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وأصحابه الغرّ الميامين .
وبعد ..
فنحن أمّة أكرمنا الله – عزّ وجلّ – بدين ٍ خالطت بشاشته القلوب فأحيتها ، وخالجت بشائره العقول فأنارتها ، وجعل بيننا من وشائج المودة والرحمة ما يعلو بالنفس عن الظلم والجور، ويسمو بها إلى العدل والنور ، ويحرِّرها من أغلال الشدة والعنف ، ويحضها على الرفق واللطف ، ويربيها على التسامح والعطف .
لقد حثّني ما نراه ونسمعه ونقرأه كلَّ يوم ٍ! - من أصناف ( العنف ) والإساءة والشدّة والاعتداءات و سوء الخُلُق - أن ألتمس مقالة أبوح فيها بما يفتح به الله تعالى عليّ من كلمات أرجو لها من أبناء جِلدتي التّدبر و العناية والقبول ؛ فإنّ المصابَ عظيم ، والجرحَ غائرٌ أليم : عنفاً وتشاجراً ، و تقاتلاً وتناحراً ، وتباغضاً وتفاخراً ، وتقاطعاً وتدابراً ، وحقداً وتنافراً ؛ في البيت وفي الشارع والمدرسة والجامعة وفي كلِّ مكان .. !
والله وحده المستعان .
و والله ِ! إنّ العين لتدمع ، وإنّ القلب ليحزن ، وإنّا لما يجري ويسري بيننا لمحزونون !
ولا نقول إلا ما يُرضي ربّنا : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ! .

إنّ ( ظاهرة العنف ) في تطوّر ، والنّاس فيها إلى تهوّر ! ؛ ولئلا ينصدعَ الشّقُّ في الواقع ، و ( يتسع الخرق على الرّاقع ) ؛ فلا بدّ من التنقيب عن حقائق هذا المرض المُعضل الذي يقضّ مضاجعنا ، والتعقيب على ذلك العرض المُخجل الذي يُناقض شرعنا ..!
وأنا لا أنتقص في استبانه الأسباب من البحوث والدّراسات ، ولا أنتقد ما يطرح – في العلاج – من الحلول والسياسات ؛ ولكن لا مفرَّ من ورود الدّين فإنّه أساس الأساسات .. .
والله - جلّ ثناؤه - يقول – مخاطباً نبيّه عليه السلام : { وألّفَ بَين قُلوبهم ، لو أنفقتَ ما في الأرضِ جميعاً ما ألفتَ بين قلوبهم ولكنّ الله ألّفَ بَنهم }
بالإسلام ! دين التّواد والتراحم ، والتّحاب والتلاحم ، ونبذ الفرقة والتنافر ، والبغض والتدابر ، ودين العدل والإنصاف ، ونبذ الجور والتعسّف والإجحاف .
ويوم أن استحكمت حلقات هذا الدين في الأمة ؛ وتمنّعت حرماته من التعدي والمجاوزة والالتباس ! ؛ غَدَتْ { خيرَ أُمّةٍ أخرجَت للنّاس } .
فلا يُعتقدُ أنّ أمّةً يصفها خالق الأنفس و ربّ البريّة بالخيريّة يكون في شرعها ما ينافي أو يخالف معاني المودة و الرحمة والائتلاف مثقال ذرّة ؛ وحسبنا هذا هادياً ودليلاً .

إنّ من أشدّ أصناف العنف – فتْكاً بالمجتمعات – ذاك الموجّه نحو الأطفال ؛ سواءٌ من ذويهم في البيوت ، أو من معلميهم في المدارس أو المراكز ودور الرعاية .. ؛ ويزدادُ العنفُ – ألماً في أنفسنا – إذا كان محلّه الأطفالُ ( ذوو الاحتياجات الخاصة ) ؛ هؤلاء الذين قدّر الله – تعالى – عليهم أنواعاً من المعوِّقات تجعلهم أقلّ ضعفاً – بكثير – من أقرانهم ؛ حتى أنه ليعجز أحدهم عن مُجرّد الشكوى ، أو البكاء ؛ ولو نزل به - من الألم - ما ينزل لضرب أو نهْر أو تنكيل .. .

هذه الفئة من الأطفال لها علينا الكثير من الحقوق ؛ وإنّ الله – تعالى – سائلنا عنهم يوم القيامة ؛ عن طعامهم وشرابهم وملبسهم ، وحسن المعاملة والتدبير لهم ، وحمايتهم ضدّ الإساءة بأشكالها ؛ وليس هذا الأمر مقتصراً على من يباشر التربية ؛ بل على كلُّ فردٍ من المسلمين ؛ بتقديم العون على قدر الاستطاعة " ولا يحقرنّ من المعروف شيئاً " ، ولو أن يزور أولئك الأطفال في دور الأيتام ، ومؤسسات الرعاية ( الاجتماعية ) ؛ فيحنو على يتيم ، ويمسح دمعة متألّم ، ويُطعم ويسقي آخرين ... ؛ ففي هذا خير عظيم لنا ، وجزاؤه من الله – تعالى – أكبر .

وأقول للمعلم والمربّي : اعلم أن كل ما كمّل الله – تعالى - به النبيّ – صلى الله عليه وسلم – من الصفات هو من رحمته – تعالى - بعباده ؛ { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } ، ولعل من أعظم الصفات أنه – صلى الله عليه وسلم – { بالمؤمنين رءوف رحيم } ؛ وفي هذا دلالة قرآنية على قاعدة تربوية جليلة وهي : ما يجب أن يكون عليه المربي والمعلم من الليونة والسهولة مع التلاميذ ؛ والإقبال عليهم بالرفق والعطف والحنان ، والقرب منهم ، والتأثر أو الانفعال لهم ، والابتعاد عن الخشونة وقسوة القلب وما يتبعهما من قبائح الأقوال والأفعال ، والنّهر والتأنيب ، بل والقهر والتعذيب .. !
وأقول – جازماً حازماً - : إن ّ المربيَ – اليوم - أحوج ما يكون إلى الالتفات لسيرة النبي المصطفى – عليه الصلاة والسلام - ؛ فإن فيها ما يُعينه – ويَعْنيه – في فهم الوسائل الصحيحة في تربية التلاميذ وتعليمهم ؛ على وجه يقيه مزالق الغضب والتعنّت ؛ فإنهما إن كثُرا منه صارا طبعاً له ؛ حتى يجرّاه إلى جناب الغلظة والشدة ، والتسلط والمجافاة في التأديب والتعليم .

وأنا الآن أذكر شيئاً يسيراً من الأحاديث التي تكفيني عناء التكلّف في بيان القواعد التي أقرها الدين الإسلامي العظيم في معاملة – لا أقول : الإنسان ! – بل الحيوان بشكل عام :
الأول : عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :" بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش ، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خَرَج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال : لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خُفّـه ثم أمسكه بفيه ثم رقى، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له "
قالوا: يا رسول الله ! وإنّ لنا في البهائم أجرًا ؟ قال : " في كل كبد رطبة أجر "

الثاني : دخل النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – حائطًا [ أي : بستاناً ] لرجل من الأنصار، فإذا جمَلٌ ، فلما رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حنّ وذرفت عيناه ، فأتاه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم - فمسح سراته إلى سنامه وذفراه، فسَكَن، فقال : " من ربُّ هذا الجمل ؟ "
فجاء فتى من الأنصار، فقـــال : لي يا رسول الله !
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملّكك الله إياها ؟! فإنه شكا إلىّ أنك تجيعه وتدئبه [ أي : تتعبه ] "

الثالث : عن عبد الرحمن بن عبدالله عن أبيه قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرةً [ طير ] معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرش فجاء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : " من فجع هذه بولدها ؟ رُدّوا ولدَها إليها "
وفي رواية : " ردّه رحمة لها "

الرابع : وقال رجل : يا رسول الله إني لأذبح الشاة فأرحمها .
قال : " والشاة إنْ رحمتها رحمك الله "
وزاد البخاري: " مرتين "

الخامس : ومرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها ..
فقال : " أفلا قبل هذا ! أتريد أن تميتها موتتين ! "

السادس : عن أبي الزبير عن جابر : أن النبيّ - صلى الله عليه - وسلم مُرّ عليه بحمار قد وُسِم في وجهه .
فقال : " أما بلغكم أني قد لعنتُ من وَسَم البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها "

السابع : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت , فدخلت فيها النار , لا هي أطعمتها و سقتها إذ حبستها و لا هي تركتها تأكل من خُشاش الأرض "

وبعدُ ..
فمثل هذه الأحاديث عن المبعوث رحمة للعالمين .. ألا تحرّك فينا شيئاً ؟ وإذا حرّكت .. ألا تدفعنا لإعادة النظر في واقع ما ننتهجه – اليوم - في تربية وتعليم الأطفال ؟
ألا تلفت أنظارنا إلى داء العنف ضد الأطفال ؛ والذي ( بدأ ) يستشري في مجتمعاتنا ؟
لقد بلغ الأمرُ حدّاً صرنا معه نسمع ونرى ( قصص تعذيب وتمثيل ! ) تستهدف الأطفال ؛ في البيوت ، والمدارس ، ودور الرعاية الاجتماعية .. قصص يندى لها الجبين ؛ والله – وحده - المستعان !

الإسلام دين الرحمة – وقد حثنا على الإحسان للحيوان - براء من هذا الداء .. فمن أين جاء ؟ !

إنّ قسوة القلوب مبدأ الغلظة في الإنسان ؛ حتى تؤدي به للتطبّع على الغضب ، وسرعة سريانه إلى النفس ، فإذا تمادى أذهبَ العقل ، والإدراك ، ويتحكم بصاحبه حتى يسلبه الإرادة ؛ وإذّاك لا يعي ما تُحْدثُه جوارحه من البطش والفُحْش ..
فما هو الدّواء ؟

لعلي أتكلّم – إن شاء الله تعالى - في المقالة القادمة ( لا تغضب .. ) بشيء من الاختصار حول الأسباب الدّاعية للحدِّ من استشراء الغضب في النفس .

أسأل الله – تعالى – أن يرزقنا الحلم والأناة والرفق في كلّ شيء ، وأن يعمّر قلوبنا بالرحمة وحبّ المساكين ، وأن يجنّبنا مواطن الغلظة والشدة والعنف .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين