الفقاعات الاقتصادية... لم لا نتعلّم

الدكتور يوسف منصور

 يبدو أن التاريخ الاقتصادي يعيد نفسه باستمرار.منذ”فقاعة هوس التوليب”، إلى "فقاعة بحر الجنوب”، وصولًا إلى "فقاعة الإنترنت” و”فقاعة العملات الرقمية”، نجد أن الفقاعات الاقتصادية حاضرة وباستمرار رغم تعدد الأسباب واختلاف أصولها وأدواتها.أيضاً، تظل النتيجة واحدة:ارتفاعات مبالغ فيها، يتبعها انهيار مؤلم.السؤال الذي يفرض نفسه ليس لماذا تتكرر الفقاعات؟بل لماذا لا نتعلّم منها؟

تحدث الفقاعة الاقتصادية عندما ترتفع أسعار أصل ما إلى مستويات تفوق قيمته الحقيقية بكثير، لا بسبب تحسن فعلي في الإنتاجية أو الأرباح، بل نتيجة توقعات جماعية بأن الأسعار ستواصل الصعود. أي أن الناس لا يشترون لأن الأصل يستحق الشراء، بل لأنهم يعتقدون أن شخصًا آخر سيدفع سعرًا أعلى لاحقًا.

تعتبر فقاعة هوس التوليب في هولندا عام 1637 واحدة من أقدم الفقاعات المسجلة، حين تحولت أبصال التوليب إلى رمز للمكانة الاجتماعية، فارتفعت أسعارها إلى مستويات خيالية، قبل أن تنهار فجأة. لم يكن هناك نظام مالي معقّد خلف هذه الفقاعة، بل طمع وخوف وسلوك قطيع (يتخذ الأفراد قراراتهم بتقليد سلوك الآخرين بدل الاعتماد على تحليل مستقل للمعلومات). مما يعني أن من الممكن للأسواق أن تتحرك بالعاطفة بدلا من العقل.

الفقاعة الثانية المهمة حدثت في بريطانيا وسميت بفقاعة بحر الجنوب عام 1720، حيث مُنحت شركة بحر الجنوب امتيازات تجارية ضخمة مقابل تولّيها سداد جزء من الدين العام،فتحوّل دين الحكومة إلى أسهم، وارتفعت الأسعار مدفوعة بدعم سياسي وسردية الثراء السريع.لكن الأرباح الموعودة لم تتحقق، وانهارت الأسهم، مخلّفةً أزمةً ماليةً وطنيةً وفقدانًا واسعًا للثقة. مما يعني أن الفقاعة تصبح مدمّرة عندما تختلط المضاربة بالسياسة وإدارة الدين العام.

وفي القرن التاسع عشر، مع الثورة الصناعية تكررت الفقاعات مع مشاريع حقيقية ومفيدة، مثل السكك الحديدية في بريطانيا. لم تكنا لمشكلة في التكنولوجيا، بل في الإفراط في التمويل والتفاؤل.حتى المشاريع الجيدة يمكن أن تتحول إلى فقاعة إذا تم تمويلها بلا حدود أو حساب للعائد الحقيقي.

وفي عشرينيات القرن الماضي، اجتاح التفاؤل أسواق الأسهم الأمريكية،فانتشر الشراء بالهامش، وتراكمت الديون، ثم جاء انهيار 1929، الذي قاد إلى الكساد العظيم. فتسببت المديونية العالية في تحويل الفقاعة من أزمة سوق إلى أزمة اقتصاد كامل.

وفي اليابان في ثمانينيات القرن الماضي تسببت سياسات نقدية ميسّرة وتحرير مالي أدّيا إلى تضخم أسعار العقار والأسهم. وبعد الانفجار، دخل الاقتصاد الياباني في "عقود ضائعة” من الركود.

ورغم أن تكنولوجيا الانترنت كانت حقيقية، لكن التقييمات لم تكن كذلك مما تسبب في فقاعة الإنترنت عام 2000، فانهارت الأسواق، وبقي الابتكار. مما يوضح أن ليس كل فقاعة تعني أن الأصل بلا قيمة، بل كون السعر مبالغ فيه.

وفي الأزمة المالية العالمية (2008) أدّت أسعار الفائدة المنخفضة، والتوريق المعقّد، والمخاطر الأخلاقية، إلى فقاعة أزمة إسكان عالمية. وعندما انهارت، اضطرت بعض الحكومات إلى إنقاذ البنوك، ودفع المجتمع الثمن، والدرس من هذه الفقاعة أن الابتكارات المالية لا تزيل المخاطر، بل قد تخفيها مؤقتًا.

العملات الرقمية وأسهم "الميم” (أسهم تتحرك بالسردية والانتشار الرقمي أكثر مما تتحرك بالأساسيات المالية)هي فقاعات اليوم، حيث تنتج فقاعات تقودها وسائل التواصل الاجتماعي، وسيولة وفيرة، وسرديات جديدة عن "ثورة مالية”. وقد أكدت التقلبات الحادة والانهيارات المتكررة الناجمة عن هذه الفقاعات حقيقة قديمة وهي أن التكنولوجيا لا تلغي قوانين الاقتصاد ولا الطبيعة البشرية.

رغم اختلاف الأزمنةتتشابه الفقاعات في عناصرها: سيولة وفيرة، قصة جذابة (هذه المرة مختلفة)، مشاركة جماهيرية واسعة، وتهميش الأصوات المتحفظة، وانهيار مفاجئ. كما أن أهم درس من تاريخ الفقاعات هو أن الاستقرار ليس عدو للنمو، والسياسات النقدية المتحفظة، والتنظيم الذكي، وعدم الانجرار وراء الحماس الجماعي، ليست علامات ضعف، بل أدوات حماية. وفي هذا العالم السريع التغير، حيث تتوالى فيه الصدمات، يبقى السؤال، هل نبحث عن الثراء السريع، أم عن نمو مستدام لا ينتهي بانفجار؟

من المهم أيضا ألا يتصرف الانسان بنهج القطيع كما قال الاقتصادي تشارلز كيندلبرغر في عبارة مستوحاة من أفكار كينز، "لا شيء يزعج الإنسان مثل أن يرى الآخرين يثرون بسرعة”، فيقوم الشخص بتقليد الآخرين