الصين وأميركا.. نارٌ تحتَ الرماد


الصينُ عقدةٌ أميركيّةٌ، لكنَّ الولاياتِ المتحدةَ ليست عقدةً صينيَّةً. تغيَّرتْ موازينُ القُوى في العلاقاتِ الدوْليَّة. الديناصورُ الأميركيُّ تَتَثاقَلُ خُطُواتُهُ فيخبطُ في الأرضِ خبطَ عشواءَ يرفضُ الاعترافَ بأنَّهُ يسيرُ في منحنىً هابطٍ. أمَّا في بلادِ التقاطُعِ الحضاري بين الكونفوشيّةِ والماركسيَّة المُحَدََّثةِ، ودبلوماسيّةِ القوَّةِ الهادئةِ، والقربِ الجغرافي من بلادِ الإسلام، فتتسارعُ خُطـُواتُ التنّين الصينيِّ في منحنىً صاعدٍ. وبينهُما سيكونُ جوهرُ الصراعِ على مستقبلِ العالم.


 تنبعُ الشرارةُ هذه المرَّةَ من قلبِ الاقتصادِ التكنولوجي الحديثِ، لا من التعامُدِ المحوريِّ بين الاقتصادِ والنفوذِ السياسي فحسبُ، مثلما كانت عليهِ الأمورُ سابقاً. كان ذلك في الحربيْنِ العالميتيْن. اليومَ تمَّ تجاوزُهُ. اقتصادُ المعرفةِ التقنيَّةِ الحديثةِ هو العاملُ المُضافُ. وهْوَ سيُطلِقُ العِنانَ لاستخدامِ القوَّةِ. عندئذٍ سيكونُ معظمُ الكرةِ الأرضيّةِ كرةَ نارٍ. الولاياتُ المتّحدةُ بطبيعتِها الإمبرياليّةِ، تُمثِّلُ اليومَ العتَبةَ العليا للرأسماليَّةِ الاستعماريَّةِ المتوحِّشةِ. تنظُرُ إلى الكونِ- أرضاً وكائناتٍ- بأنَّهُ ملكٌ صِرفٌ خاصٌ بها. ترفضُ التخلّي عنه. لا تريدُ أنْ تعترفَ بأنَّها لم تعُدْ قادرةً على الانفرادِ بقيادةِ العالمِ.


انهارتْ إمكانيَّةُ الهيمنةِ المطلقةِ التي حذَّرَ منها "غرامشي”. اهتزَّتِ الأحاديّةُ الأميركيةُ في أقلَّ من نصفِ قرنٍ بعد زوالِ الاتحادِ السوفياتي ولم ينتَهِ التاريخُ مثلما كان يتوهَّمُ "فوكوياما”، أو كما يحلمُ أنْ يُنْهيهِ راهناً "دونالد ترامب”. لا نقصِدُ أنَّ المرحلةَ الراهنةَ في العلاقاتِ الدوْليَّةِ لم تَعُدْ ذاتَ صبغةٍ أميركية. هذه نتيجةٌ مرتقَبةٌ لكنَّها ليستْ متحقِّقة ًالآن. إنَّنا نقصِدُ بدقَّةٍ أنَّها لم تعُدْ أميركيةً صرفاً، إذْ بدأتْ فيها خلخلةٌ تثيرُ مكامنَ القلقِ في الدولةِ الاستغلاليَّةِ العميقة. وهذا ما يقُضُّ مضاجعَ الطبقةِ الماليَّةِ الحاكمةِ، المتحالفةِ مع الصهيونيّةِ في كلِّ الإداراتِ الأميركيَةِ. ليس سهلاً على العقلِ السياسي لهذهِ الطبقةِ الأميركيّةِ أنْ يقبلَ الآخرَ. إنَّهُ يرفُضهُ في العمقِ فيما يتحدَّثُ دعائيَّاً عنِ السلامِ والديموقراطيّةِ حتَّى يقتُلَهما. ونراهُ يطـعنُ حلـيفَـهُ الأوروبيَّ ضمنَ دائرتِهِ الرأسمـاليّةِ نفسِها. تلك هي نتـائجُ علاقاتِ الإنتاج ِالرأسماليِّ الجامعِ بين الاستغلالِ والقوة. لهذا كُلِّهِ لن تتقبَّلَ الولاياتُ المتحدةُ التوسُّعَ الناعمَ للصين.

 ولن تتحمَّلَ صعوداً آسيوياً بقيادةِ الصينِ المتحالفةِ مع روسيا وإيران وكوريا الشماليَّةِ. وفوق هذا هي مقبولةِ برحابةٍ واسعةٍ في أفريقيا، وفي عددٍ من دولِ أميركا اللاتينيةِ، وتُسيطِرُِ على مواردِ صناعةِ الاقتصادِ المستقبلي: المعادِنِ النادرةِ والتقدُّمِ الرقمي، وصناعةِ الرقائقِ الإلكترونيَّةِ. هذه جميعُها هي النفطُ الجديدُ في المرحلةِ القريبةِ المقبلةِ، وقد لا تتعدَّى عشْرَ سنواتٍ وَفقاً للمُعطياتِ العِلميةِ الصاعدةِ في الصين. الولايات المتحدةُ ستخسرُ الأحاديّةَ. "تايوان” تستعيدُها الصين. روسيا تبقـى فـي أهـمِّ مناطـقِ أوكـرانيـا وتـرفـعُ جداراً ناريّاً بوجـهِ "الناتـو”.


والأوروبيونَ مهدَّدونَ في وحدتِهم ويعيشونَ هاجسَ الخوفِ من روسيا، ويدخلونَ في ما يشبهُ حالةَ "الرجلِ المريض”، ولا يبادرونَ برغم ذلك إلى تحسينِ علاقاتِهم إستراتيجيَّاً مع موسكو وبكين. أمَّا الثمنُ الأكبرُ فسيدفَعُهُ العربُ إذْ إنَّ أولياءَ السلطةِ عندَهُم لا يأبهونَ لقضايا بلادِهم. ولا يُفكِّرونَ بالخروجِ من العباءةِ الأميركيَّةِ العقلُ الإستراتيجيُّ الأميركيُّ ما زالَ يحلَمُ بمعادلةِ الخمسينيَّاتِ. آنذاكَ فرضتِ الولاياتُ المتحدةُ سيطرتَها على "تايوان” تحت عنوان "الصين الحرَّة”، لِتكونَ حاجزاً طبيعياً واقتصاديَّا يُضيِّقُ المداخلَ البحريَّةَ على الصين تُجاهَ المحيطِ الهادىء ولا سيَّما في مضيق "تايوان” وبحر الصينِ الشرقي وبحر الصين الجنوبي. لا تستطيعُ واشنطن الاستمرارَ في معادلةِ الحصار التي كانت في الخمسينيَّاتِ ضدَّ الصين. هنا مأزِقها. وهنا تبرُزُ حساسيَّةُ "تايوان”. إنَّها مسألةٌ استثماريَّةٌ ونفوذيَّةٌ بالنسبةِ إلى واشنطن، فيما هي قضيَّةٌ قومية ٌوإستراتيجيَّةٌ وتاريخيَّةٌ بالنسبةِ إلى بكين. لم تختفِ في أيِِّ مرّةٍ من إستراتيجيَّاتِ الحزبِ الشيوعي الصيني منذ خمسةٍ وسبعينَ عاماً. وهذا ما يجعلُ الشعبَ الصيني يقفُ خلفَ دولتِهِ من أجلِ توحيدِ أرض ِالصين التاريخيَّةِ. مقابل ذلك، تُؤكِّدُ الاتجاهاتُ الجديدةُ بين المواطنينَ الأميركيينَ ارتفاعاًَ في منسوبِ رفضِ مُخططاتِ الحربِ الأميركيةِ من المحيطِ الهادىءِ، إلى المحيطِ الهندي، إلى البحرِ الكاريبي إلى الشرقِ الأوسط إلى أوروبَّا. "تايوان” بالنسبةِ إلى الصين في هذا القوسِ الإستراتيجي تُشبِهُ أوكرانيا الروسيَّة. وتتناظرُ رؤيةُ الصينِ إليها في مع رؤيةِ موسكو إلى مداها الإستراتيجي في أوراسيا طبقاً لفلسفةِ "ألكسندر دوغين” التي يتبنَّى كثيراً منها الرئيسُ الروسي "فلاديمير بوتين”. وبرغمَ ذلك، أيْ رَغْمَ الاضطراب في الداخلِ الأميركي مقابلَ الاستقرار الصيني والروسي، فإنَّ طبيعةَ الرأسماليَّةِ تدفعُ طبقتَها السياسيةَ إلى خوْضِ مغامراتِ اللحظةِ الوجوديّةِ الخطرة. وهكذا قد تكونُ "تايوان” شرارةً تشعلُ مياهَ المحيطِ الهادىءِ ثمَّ تُشعِلُ العالم. بهذا المعنى، "تايوان” الآن هي عنوانٌ معقَّـدٌ للصراعِ العالـمي. معركتُها قائمةٌ فعليَّاً لكنَّها في مرحلةِ ما قبلَ النار. لن تندلِعَ الحربُ إلَّا عندما تشعرُ الرأسماليَّةُ الأميركيَّة ُبأنَّها استنفدتْ محاولاتِها ضدَّ بكين في عددٍ من ساحاتِ الطاقةِ والمعادنِ والمواردِ الطبيعيَّة. الأمثلة ُكثيرةٌ تحملُ كلُّها دلالاتِ الانفجارِ المنتظرِ بسببِ حَثاثةِ الرأسماليّةِ في مساعيها إلى تصديرِ أزَماتِها، وحلِّ مُشكلاتِها على حسابِ الآخرين. العدوانُُ الأميركي على فنزويلا هو جزءٌ من هذه المعادلة. واشنطن تريدُ النفط الفنزويلي [يمثِّلُ وحدَهُ خمس الاحتياطي العالمي]، وتُخطِّطُ لِصدِّ التمدُّدِ الصيني في أميركا اللاتينيّة. أمَّا شعارُ مكافحةِ المُخدِّراتِ فلا يَتجاوزُ حدودَ الشعارِ الدِّعائيّ. ويبقى السؤالُ: هل تندلِعُ الحربُ في الكاريبي؟ المسألةُ صعبةٌ برغمِ التهويلِ العدوانيّ الأميركي، فأميركا اللاتينيَّةُ اليومَ غيرُها في الخمسينيَّاتِ، وشعوبُها قادرةٌ على التصدِّي، والظروفُ الدوليَّةُ تجعَلُ النارَ في الكاريبي تُشعِلُ النارَ في مناطقَ أخرى. أمَّا في أفريقيا فقدِ ازدادَ التمدُّدُ الصينيُّ الهادىءُ وبات عصيَّاً على الأميركيينَ إِيقافُهُ. هذه هي الصورةُ الدوليَّةُ: الصينُ وحلفاؤُها والولاياتُ المتحدةُ وأدواتُها. صراعٌ مريرٌ.

تختارُ فيه بكين أسلوبَ النفَسِ الطويل. أمَّا واشنطن فتستعجلُ الإجراءاتِ خوفاً على فرصتِها الأخيرة. التصادُمُ لا يقتصرُ على الاقتصادِ والقوةِ والتكنولوجيا، بل يتجاوزُها إلى البعد الثقافي – الحضاري، فالصينُ تطرَحُ التعدُّديةَ العالميةَ ومعَها روسيا، وواشنطنْ تطمعُ في استمرارِ الأحاديَّةِ أو استبدالِها بالاستتباع. ولا مُعطياتِ تُشيرُ إلى أنَّها ستُحقِّقُ ذلك. إقرأ على موقع 180  "القتال بالظل" من بن لادن إلى البغدادي (3) إزاءَ هذا الواقعِ مَنْ سيدفعُ الثمن؟ الولايات المتحدةُ ستخسرُ الأحاديّةَ. "تايوان” تستعيدُها الصين. روسيا تبقـى فـي أهـمِّ مناطـقِ أوكـرانيـا وتـرفـعُ جداراً ناريّاً بوجـهِ "الناتـو”. والأوروبيونَ مهدَّدونَ في وحدتِهم ويعيشونَ هاجسَ الخوفِ من روسيا، ويدخلونَ في ما يشبهُ حالةَ "الرجلِ المريض”، ولا يبادرونَ برغم ذلك إلى تحسينِ علاقاتِهم إستراتيجيَّاً مع موسكو وبكين. أمَّا الثمنُ الأكبرُ فسيدفَعُهُ العربُ إذْ إنَّ أولياءَ السلطةِ عندَهُم لا يأبهونَ لقضايا بلادِهم. ولا يُفكِّرونَ بالخروجِ من العباءةِ الأميركيَّةِ، أو على الأقلِّ لا يهتمُّونَ بدراسةِ التوازناتِ الدوْليّةِ الجديدة كي يبنوا علاقاتٍ نوعيَّةً مع الصين وروسيا. وهكذا فإنَّ المنطقةَ العربيَّةَ معرَّضةٌ للاستمرارِ فريسةً للذئبِ الإسرائيلي الذي يسعى إلى التفرُّدِ في السيطرةِ على الحياةِ العربيّةِ. المرحلةُ القريبةُ في المدى المنظورِ ستشهدُ صراعاتٍ حادَّةً ولا سيَّما في بلادِنا تدور كلُّها في فلك الصراعِ الأميركي- الصيني، فهل يصحو أولياءُ العربِ كي يختاروا موقعاً إستراتيجيَّاً رابِحاً فلا يتكرَّرَ فيهم ما حصلَ لهم خلال الحربين العالميتين من خسائرَ ومكائدَ فيخسرُوا ما تبقَّى من وجودِهم.