فكّ الارتباط المصرفي بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية.. إلى أين؟

في خطوة أشعلت جدلاً اقتصادياً وسياسياً، أعلن وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش في حزيران 2025 عن إلغاء الضمان المصرفي (Indemnity) الذي يتيح للبنوك الإسرائيلية العمل مع البنوك الفلسطينية دون مخاطر قانونية كبيرة. هذا القرار أثار مخاوف واسعة داخل الأوساط الإسرائيلية والفلسطينية على حد سواء، وأعاد إلى الواجهة طبيعة التقاطع بين السياسة والاقتصاد في الملف الفلسطيني.

لكن الأهم من ذلك: لم يكن إلغاء الضمان نهاية المطاف. فقد أعلنت مصادر مصرفية فلسطينية، نقلاً عن تقارير محلية، أن إسرائيل مدّدت العلاقة المصرفية مع البنوك الفلسطينية لفترة قصيرة تدوم أسبوعين فقط كحل مرحلي بعد ان بدأ سريانه في 1-12-2025، ما يعكس أن التوتر لا يزال قائماً، وأن هناك هامشاً من المناورة لكنه محدود جداً.

القرار ليس مجرد إجراء اقتصادي محايد، وإنما أداة سياسية. حسب ما نقلته وسائل إعلام، فإن إلغاء الضمان جاء كخطوة ردّ على ما وصفه بـ «حملة نزع الشرعية» التي تشنها السلطة الفلسطينية على إسرائيل على المستوى الدولي، خصوصاً في ظل عقوبات غربية فرضت عليه مؤخراً خطوة يرى فيها البعض محاولة لإخضاع البنوك الفلسطينية للابتزاز السياسي.

ومع ذلك، ليست كلّ البنوك الإسرائيلية تدعم القرار بسهولة. صحف إسرائيلية نقلت خوف البنوك من تبعات قانونية، إذ إن الضمان كان يحميها من دعاوى غسل الأموال أو تمويل الإرهاب في حال استمرت في التعامل مع نظيرات فلسطينية.

هذا يعني أن القرار ليس فقط سياسياً، بل يضع البنوك الإسرائيلية في مفترق طرق: الاستمرار دون ضمان يُعرضها لمخاطر، والتراجع يضر بعلاقاتها التشغيلية.

من جانب السلطة الفلسطينية، تحذير صريح من أن هذا الإلغاء قد يهدد استقرار الاقتصاد، خاصة أن جزءاً كبيراً من البنية المالية الفلسطينية يعتمد على التحويلات بالشيكل عبر البنوك الإسرائيلية. وفقاً لتقديرات، فإن النظام المصرفي الفلسطيني سيفقد قدرة على إجراء المعاملات الأساسية لسداد الرواتب، شراء السلع، أو حتى تأمين الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء.

هذا يعيد سيناريو الاقتصاد "النقدي بالكامل" (Cash Economy)، حيث تعود المعاملات إلى أسلوب نقدي مباشر دون ضمانات مصرفية، ما يزيد من المخاطر على الشفافية والاستقرار المالي.

كما تم التأكيد على أن هذا القرار يمكن أن يعيق توريد السلع الأساسية، مثل الغذاء والوقود، وهو ما قد ينعكس على حياة المواطنين بشكل مباشر.

من جهة أخرى، تشير السلطة إلى أنها ما زالت مرتبطة بشبكة بنوك مراسِلة دولية، ما يمنحها بعض الأمان، لكنها تحذّر من أن الاعتماد على تلك القنوات وحدها قد لا يكون كافياً إذا تعمّق الانقطاع مع البنوك الإسرائيلية.

التمديد المؤقت لمدة أسبوعين يبدو كحل تكتيكي مرحلي وليس نهاية التصعيد. هذا التمديد القصير يعطي فسحة زمنية لكل الأطراف لإعادة التفاوض، أو على الأقل لإدارة الأضرار، لكنه ليس ضماناً مستداماً.

من الجانب الإسرائيلي، ربما يُنظر إلى التمديد كدفعة تكتيكية لكسب الوقت، أو لتهدئة الضغط الدولي أو الفلسطيني. من الجانب الفلسطيني، قد يكون هذا التمديد فرصة لتفعيل خطط طوارئ مالية مؤقتة قبل أن يُفرض سيناريو أسوأ.

الإعلام الإسرائيلي يعكس تبايناً في قراءة القرار:

• بعض الصحف ترى أن سموتريتش يستخدم الملف البنكي كأداة ضغط سياسي، مستغلاً الخلافات الدولية مع السلطة الفلسطينية لكسب مكاسب سياسية داخلية.

• آخرون يحذّرون من أن التوتر المصرفي قد ينذر بتداعيات اقتصادية خطيرة، ليس فقط على الفلسطينيين، بل على البنوك الإسرائيلية التي قد تجد نفسها في موقف قانوني صعب إذا استمرت بدون ضمان.

• هناك أيضاً صوت دولي وارده من جهات مثل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، التي تحذّر من أن قطع العلاقات المصرفية قد يؤدي إلى أزمة إنسانية. الحقائق الاقتصادية تقول إن الكثير من التحويلات الفلسطينية تمر عبر النظام الإسرائيلي حالياً.

من منظور استراتيجي فني واقتصادي، هناك عدد من الخطوات التي يمكن لسلطة النقد الفلسطينية اعتمادها فوراً، لتعزيز قدراتها ومواجهة مخاطر الانقطاع:

١- إطلاق خطة طوارئ مصرفية:

يجب تفعيل "خطة غرفة عمليات" داخل سلطة النقد لتنسيق معها البنوك الفلسطينية لتأمين السيولة، تسريع عمليات تسوية داخلية، وضمان دفع الرواتب والخدمات الأساسية خلال الفترة الحرجة‪.

٢- تعزيز البنية المراسِلة الدولية:

توسيع العلاقات مع بنوك مراسِلة خارج إسرائيل، خاصة في أوروبا والعالم العربي، للحد من الاعتماد على النظام المصرفي الإسرائيلي في المعاملات الحيوية.

٣- تنمية منصات دفع إلكترونية وطنية:

تفعيل حلول الدفع الرقمية محافظ إلكترونية، تحويلات داخلية عبر (FinTech) بإشراف سلطة النقد لتقليل الحاجة إلى التعاملات النقدية، وضمان استمرارية المعاملات حتى إذا ضعفت القنوات التقليدية‪.

٤- جهد دبلوماسي مالي مكثف:

إشراك المجتمع الدولي (صناديق دولية، مؤسسات مالية دولية، حكومات داعمة) للضغط على إسرائيل لاستعادة الضمان أو تمديد إطار المصالحة البنكية، مع ضمانات اقتصادية وسياسية.

٥- بناء ثقة داخلية:

إطلاق حملات تواصل شفافة مع الجمهور: إعلام المواطنين بأن ودائعهم آمنة، وشرح الخطوات التي تُتخذ للحفاظ على النظام المصرفي، وتقديم تقارير دورية عن الموقف المالي.

قرار سموتريتش بإلغاء الضمان المصرفي لم يكن خطوة عادية، بل يُحتمل أن يكون جزءاً من استراتيجية سياسية تهدف إلى ممارسة ضغط اقتصادي على السلطة الفلسطينية. من جهة أخرى، التمديد لمدة أسبوعين فقط يعكس علاقة مرنة، لكنها هشة، تتيح بعض المناورة لكنها لا تضمن استقراراً طويل الأجل.

سلطة النقد الفلسطينية أمام اختبار حقيقي: هل تستطيع تحويل هذا التوتر إلى فرصة لتعزيز البنية المالية الوطنية، دون الانجرار إلى أزمة نقدية خطيرة؟ الطريق إلى ذلك ممكن، لكنه يتطلب مزجاً بين الجوانب التقنية والدبلوماسية، وبين الضغط والمشاركة، وبين إدارة الأزمة والتخطيط للمستقبل.