موقف …حواجز الموت: كيف تتحرك في وطن يُفتح ويُغلق بمزاج الاحتلال ؟
في عالمٍ آخر—عالم طبيعي مثلًا— يستيقظ الناس في الصباح، يحملون مفاتيح سياراتهم، يودّعون أطفالهم، ثم يسلكون طريقًا واحدًا… طريقًا مستقيمًا… طريقًا آدميًا.
أما في فلسطين، فالأمور أكثر تعقيدًا وابتكارًا.
فهنا، الطرق لا تُغلق لأسباب مرورية ولا للصيانة ولا لأن ثلجًا أغلق المنحدرات، بل لأن جنديًا على حاجز قرّر فجأة أن يمارس هوايته المفضّلة: خلق أزمة سير تكفي لإرباك يوم مدينة كاملة.
حياة الفلسطيني مرهونة بالبوابات والسدّادات والحواجز. قبل أن يخرج من بيته، عليه أن يجري فحصًا أمنيًا شاملًا، هل بوابة الشمال فُتحت؟ هل سدة الشرق أُغلقت؟ هل مدخل الغرب استيقظ برأسٍ متسامح أم متجهم؟
إنها أسئلة تحدّد مصير النهار أكثر مما تحدده خطط العمل والالتزامات. للخروج او الدخول إلى الخليل، يبدأ اليوم من شاشة الهاتف، لمعرفة:"هل رأس الجورة مفتوح؟” ذلك المدخل الذي قرّر الاحتلال أن يبقيه في حالة تأهّب دائم: يفتح حين يشاء، ويُغلق حين يشاء، ويترك خلفه طوابير ترتّب أعصاب الناس أكثر مما ترتّب السيارات. وحين يضيق رأس الجورة، تقفز الأعين إلى فرش الهوا؛ ذلك المدخل الذي يتصرّف كأنّه بطل مسلسل طويل، يتنقل بين الفتح الجزئي والإغلاق الكامل، ويتعامل مع المركبات الثقيلة كأنها تهديد أمني، لا وسيلة نقل…
أما المربعة في نابلس شمال الضفة، فيمثّل النسخة الأكثر خوفاً … والأكثر استفزازًا. يُغلق بلا إنذار، ويُفتح بلا تفسير، تاركًا المارّة وسط مشهد يشبه جلسة تأمّل قسرية، قبل البحث عن طريق بديل بين الجبال والوديان. وفي بيت فريك، يتحوّل العبور إلى اختبار قدر: قد تصل في اللحظة التي يقرر فيها الجندي السماح بالمرور، وقد تصل في اللحظة التي يقرر فيها إغلاق البوابة، دون اكتراث بالمسافرين ولا بمسار يومهم.
أما دير غصون، فمجرّد الرغبة في الدخول أو الخروج منها تستلزم قراءة سريعة لمزاج الحاجز، وكأنّ الأمر يتعلق باستشارة أمنية لا بمرور طبيعي بين مدينة وأخرى.
قلنديا… أم الحواجز وأيقونة المعاناة
عندما نقول قلنديا، نقول دولة داخل دولة. طوابير تمتد من أول الرصيف إلى آخر الأعصاب. عابرون لا يعرفون هل سيمرّون خلال ساعة… أو خلال العشاء!
قلنديا هو المكان الذي تتعلم فيه الصبر… رغمًا عنك.
ثم يأتي "ملك المأساة”… حاجز الكونتينر؛ الحاجز الذي يستطيع، بإشارة واحدة، أن يفصل جنوب الضفة عن شمالها.
هو الباب الذي يمكنه أن يحوّل رحلة مدتها نصف ساعة إلى رحلة تمتد لساعتين أو أكثر، لا لشيء إلا لأن الاحتلال قرر أن يفرض على الفلسطينيين درسًا يوميًا في الجغرافيا القسرية. وحين تُغلق كل الأبواب… تبدأ "رحلة السفاري”
عند انسداد كل هذه المداخل، يتحوّل الفلسطيني إلى خبير مسارات جبلية، يبحث عن طريق فرعية، أو زراعية، أو أي مسار يتيح العبور. فالطرق هنا ليست خطوطًا مرسومة على الخرائط، بل احتمالات مفتوحة على كل الاحتمالات.
وهكذا تنتشر يوميًا الاتصالات بين الناس: أي طريق ما زال قابلًا للاستخدام؟ أي بوابة فُتحت؟ وأي حاجز أغلق فجأة؟
وفي أحيان كثيرة، لا يجد الفلسطيني إلا أن يضع ثقته في بصيرته… وفي صمود مركبته أمام الطرق الوعرة.
جسر الملك حسين… نقطة العبور التي لا تعترف بالوقت
وإذا انتهت معاناة الطرق الداخلية، تبدأ فصول جديدة على جسر الملك حسين، المعبر الوحيد الذي يسمح للفلسطيني بلقاء العالم.
هناك تضيع مواعيد الطائرات كما تضيع الساعات في الانتظار…
لا قيمة لجداول الرحلات، ولا لارتباطات السفر.
فعبور الفلسطيني مرهون بلحظة يقرر فيها الجندي أن يسمح للوقت بالتحرّك، وأن يسمح للرحلة بأن تبدأ.
وقد يحدث كثيرًا أن تُقلع الطائرة في السماء، بينما يبقى صاحب التذكرة واقفًا خلف الزجاج، يؤدي طقسًا ناقصًا من طقوس السفر.
ذلك المعبر لا يُفتح بموعد الطائرة… بل بإذن الاحتلال، وإذن الاحتلال قد يتأخر، وقد لا يأتي.
في فلسطين، الطريق ليست مسارًا للتنقّل بقدر ما هي اختبار يومي للأعصاب والصبر والاحتمال.
فـحواجز الموت تتربص بكل منعطف، والسدّات تزحف نحو مداخل المدن والقرى والمخيمات كأنها جدار يتكاثر ولا يتوقّف.
بوابات حديدية وسدادات صلبة على كل طريق فرعي، وشوارع تُفتح دقائق لتُغلق ساعات، تاركة الناس في طقوس انتظار لا تنتهي.
وفي هذا المشهد المعقّد يمكنه أن يتوقّع كل شيء… إلّا الإنسانية.
ومع ذلك، يظل الفلسطيني قادرًا على اجتياز الطرق الوعرة، والبوابات المغلقة، والحواجز المتقلّبة، بإصرار يسبق فتح الطرق ذاتها.
إنه شعبٌ يسير رغم كل شيء… ويسافر رغم كل المعوّقات…
و يعود الفلسطيني من الطرق الوعرة إلى بيته، ينفض التراب عن ثيابه، يضحك، ويقول: "غداً نجرب طريق تاني!".