جواد العناني يكتب .. وحدة اقتصادية في بلاد الشام

مضت سنوات عديدة منذ آخر مرة زرت فيها سورية، وكان ذلك في عام 2010، أي بعد 15 سنة من الغياب. أما لبنان فقد زرتها أكثر من ذلك وآخرها عام 2020. وقد عانى هذان البلدان من تقلبات حادة، واهتزازات عنيفة، وحروب مدمرة، أنهكت اقتصاديهما بفعل التهديدات الخارجية، وعدم التفاهمات والنزاعات الداخلية، وقد قمت الأسبوع قبل الماضي بزيارة البلدين لمدة قصيرة، والتقيت بعض المسؤولين فيهما، وأتيحت لي الفرصة للتجول في كل من دمشق وبيروت.

الطريق من عمان إلى الحدود السورية مرت سهلة، والمرور عبر نقطة الحدود الأردنية ميسرٌ. ولكن الذي فاجأني أن الحدود السورية كانت مرتبة، والاستقبال من قبل رجال الأمن كان حفياً باسماً، وإن بدا واضحاً أنهم لم يعتادوا على مثل هذا العمل سابقاً. وأصروا على استقبالي في صالة الزوار مرحبين، والمكان الذي جلسنا فيه نظيف وأعيد ترميمه حديثاً. وعبرنا الحدود من غير رشوة أو نقود داخل الجواز كما كان الأمر سابقاً. وعبرنا إلى طريق دمشق حيث مررنا بنقطتي تفتيش فقط. واكتفى رجال الأمن فيهما بالاطلاع على جوازاتنا والسماح لنا بالمرور من غير تعويق.

ونزلنا بأحد الفنادق المتميزة في دمشق حيث توفرت الخدمة الجيدة. وفي المساء قمت مع زميل لي بالسير في الأسواق حيث وجدت الناس أكثر استبشاراً بالمستقبل وإقبالاً على الخروج من المنازل والجلوس في المطاعم والمقاهي. وتشعر بأن هذا الشعب المتميز الراغب في الحياة بدأ يمارسها. وشعرت كأنني أعيش قصة فتية الكهف، وقد خرجوا بورقهم ليختاروا الطعام، وليمارسوا حياتهم.

وفي اليوم التالي التقيت مع حاكم المصرف المركزي السوري، الدكتور عبد القادر حوصرية، وقلت له إنني شاهدت له مقابلة على إحدى القنوات السورية يشرح فيها الخطط المستقبلية لإعادة بناء الجهاز المصرفي السوري، وبناء المؤسسات الحديثة التي تتطلبها الآن إدارة هذا القطاع المهم، ولتمكين المصرف المركزي من خدمة الحكومة في برامجها التنموية، وإعادة تدفق الحياة في شرايين الاقتصاد. ورحب بي حيث اكتشفت أنه يعرفني، وأننا التقينا سابقاً في مناسبتين، وتحدث بحماس عن برامج المصرف المركزي، ولكنه قال لي: لماذا لا نفكر في إنشاء وحدة اقتصادية بين سورية والأردن ولبنان، حيث نخلق مفهوم المواطنة الاقتصادية الواحدة في الدول الثلاث من غير أن نغير شيئاً في الدول، من حيث الترتيبة السياسية، وآلية صنع القرار، أو إلغاء الحدود، بمعنى أننا نريد أن يكون مواطنو الدول الثلاث مواطنين اقتصاديين فيها، وليسوا مواطنين سياسيين.

ولما سمعت ذلك تذكرت أبا فراس الحمداني في قصيدته "أراك عصي الدمع " حيث يقول "وقلبت أمري لا أرى لي راحة"، فإن وافقت أو رفضت فقد أكون مخطئاً، ولكن الفكرة سكنت دماغي، ولم يكن من السهل عليّ تناسيها وأبقيتها في مخزون العقل حتى أزور لبنان. ووصلنا لبنان وكانت بالنسبة لي صدمة، فالحدود مبانيها قديمة بحاجة إلى صيانة كاملة، والطرق داخل منطقة الحدود بالية مهترئة ومطباتها كثيرة. ولكن ذلك لم يكن ليؤثر في مشاعرنا تجاه لبنان الحبيب، واستمر السير حتى وصلنا الفندق، وكان كل شيء داخله يناقض ما رأيناه على الحدود. ومررنا بالمناطق القريبة من المطار مثل الكارنتينا، حيث آثار التدمير الإسرائيلي حية واضحة، مثل وضوح الضربة الإسرائيلية على القصر الرئاسي في جبل قاسيون بدمشق.

ووجدت أهل لبنان الصابرين غير متفائلين كعادتهم، وهم يخشون أن كل العقوبات التي عانت منها سورية سوف ترفع تدريجياً عن سورية وتفرض على لبنان. وعلى خلاف ما رأينا في دمشق فإن شوارع بيروت لم يكن فيها تلك الحركة المعهودة. هناك صمت عالٍ يدوي في فضاء بيروت، وواضح جداً أن معظم المواطنين فيها يعانون من تراجع القيمة الشرائية لرواتبهم. وأن في لبنان مشكلة مستعصية، ولكن هذا لم يؤثر كثيراً في سعر العقار الذي حافظ على قيمته وصار مستودعاً لمدخرات اللبنانيين الذين لم يعودوا يثقون بإجراءات مصرف لبنان المركزي بعد ما أشيع عن ممارسات خطيرة من قبل حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة. ولذلك صار الملاذ الآمن لكثير من أصحاب الفوائض المالية هو الاستثمار في العقار، خاصة في الأماكن ذات القيمة التجارية المتقدمة.

وبدأت بعد عودتي إلى عمان بالطائرة من بيروت بتجميع الأرقام عن أهم المؤشرات والثوابت في الدول الثلاثة. فوجدت كما هو متوقع أن الأرقام لكل من سورية ولبنان كثيرة التقلب، خاصة في الأعوام العشر الأخيرة. وقد وجدت صعوبة في معرفة الناتج المحلي الإجمالي، وعدد السكان، والصادرات، والواردات. ونسبة النمو السكاني، وغيرها من الأمور. البلد الوحيد من بين الدول الثلاث ذو الأرقام المستقرة والمقبولة هو الأردن، ولكنني استعنت ببعض الدراسات والأرقام لكي أقدر هذه الأرقام كمعدلات، رغم التذبذب السنوي في كل من سورية ولبنان. ومن هنا، قلت: ماذا لو أصبحنا وحدة اقتصادية غير سياسية، فهل بالإمكان تحمّل ذلك؟ وهل ستقف الدول المناوئة والمعادية مثل إسرائيل مكتوفة الأيدي على هذا التطور؟ والجواب الواضح هو: بالطبع لن يقفوا ساكتين، حتى ولو أنهم هم الذين يريدون لهذه الدول أن يتحول اهتمامها من الأبعاد السياسية إلى النشاطات الاقتصادية. ولكنهم عندما يقولون ذلك، فإنهم يريدون لإسرائيل أن تكون جزءاً من هذا الجهد. وأنا لا أعتقد أن لإسرائيل مكاناً، ولكن المكان الذي يجب أن يحفظ ويبقى للمستقبل حتى تحين الفرصة، فهو لفلسطين. ويجب أن يكون إعلان مشروع المواطنة الاقتصادية مفتوحاً لدولة فلسطين عند ترجمتها إلى واقع، ولكن هذا لا يعني إغلاق الباب أمام التعامل مع فلسطين حتى تصبح دولة، ولكن ضمن ضوابط لا تسمح لإسرائيل بالتغلغل منها.

يبلغ سكان الأردن وسورية ولبنان حسب الإحصاءات المتاحة حوالي 43 مليون نسمة، 26 مليوناً في سورية، وحوالي 12 مليوناً في الأردن، وحوالي 6 ملايين في لبنان. أما مساحة تلك الدول فتبلغ حوالي 278 ألف كيلو متر مربع. ما يجعل معدل الكثافة السكانية حوالي 140 شخصاً لكل كيلو متر مربع. حيث تقل هذه إلى 120 في الأردن، وترتفع إلى 140 في سورية، وتصل إلى 577 شخصاً لكل كيلو متر مربع في لبنان. أكثر تركيز سكاني في الدول الثلاثة هو في الأردن حيث يبلغ تعداد سكان العاصمة حوالي نصف سكان الأردن. أما من حيث السكان المدنيين عموماً مقابل سكان الريف فإن نسبة القاطنين في المدن داخل الأردن تشكل 85.7% من السكان، وفي لبنان حوالي 83%، أما في سورية فتبلغ حوالي 54% فقط.

ولو نظرنا إلى مساحات الدول والسكان، فإن المواطنة الاقتصادية لن تُحدث خللاً في التكوينة الديمغرافية وتوازناتها في أي من الدول الثلاث. ولكنها ستفتح المجال لانتقال العمالة ورؤوس الأموال وترفع من الإنتاجية الاقتصادية لهذه الدول. وما أوردته من أرقام في هذا المجال ليس إلا الجزء اليسير مما جمعته عنها. فهناك أرقام المديونية الخارجية، وأرقام معدلات الاستثمار، وأرقام الصادرات والواردات، ولكن هذه المتغيرات كلها لن تبقى على حالها كما هي الآن.

ولعل هناك شواهد تاريخية حديثة تقول إن أهل هذه الدول الثلاثة قد صاروا مواطنين اقتصاديين لدى بعضهم البعض. فاللبنانيون لجأوا للأردن في سبعينيات القرن الماضي حيث نشطوا وعملوا، وكذلك حال السوريين الذين وصلوا إلى الأردن منذ اندلاع الثورة في سورية عام 2011، ولكنهم عملوا مواطنين اقتصاديين، وهناك انتقالات للأيدي العاملة في المواسم، مثل موسم قطاف الفاكهة وموسم الحصاد والمواسم السياحية. ولا ننسى الهجرة للأردنيين والفلسطينيين بعد احتلال العراق دولة الكويت، حين عاد للأردن أكثر من ثلاثمائة ألف مواطن. هذا بخلاف الهجرة عام 1948 من فلسطين إلى الأردن وسورية ولبنان. كل هذا الدفع السكاني أثبت أن هذه الدول الثلاثة لا تزال تحكي نفس اللغة، ويتقبل بعضها البعض طالما بقي التعاون اقتصادياً وليس سياسياً. وما دمر العلاقات في معظم الأحيان هو محاولة السيطرة السياسية من دولة ما على دولة أخرى.

المشروع بحد ذاته يتمتع بتوفير القوى البشرية المطلوبة، ويوفر أسواقاً أكبر للمنتجات والخدمات. ويفتح الباب على زيادة السياحة والاستثمارات، ويقلل من فرص الاحتكاك الاجتماعي بين المجموعات السكانية داخل الدول، ولا حاجة للتدليل المفصل لما هو مدروس دراسة وافية، حيث يثبت أن التكامل الاقتصادي يأتي بفوائد كثيرة على الدول. ولا يعني أن المواطنة الاقتصادية بين الدول المقترحة هو مشروع مغلق، بل إن هذه المجموعة مطالبة بأن ترتب أمورها مع الدول العربية المحيطة بها مثل دول الخليج عبر المملكة العربية السعودية والعراق عبر الأردن وسورية ومصر عبر الأردن، ومستقبلاً مع كثير من المناطق الاقتصادية. ولكن هناك تحديات أهمها الاحتلال الإسرائيلي لأراض سورية ولبنانية، وسعي إسرائيل لخلق نماذج تخدم مصالحها وتسهل هيمنتها، وثانيها هو إتمام عمليات إعادة الإعمار خاصة في سورية ولبنان وقطاع غزة. ولكن الفكرة يجب أن تلقى جدية أكثر مما يبدو على السطح. والشكر للدكتور عبد القادر حوصرية على الفكرة الإبداعية.