حتى تكون الحرب مستحيلة.. البرجي يكتب
نبيه البرجي
لا تستطيع الدولة أن تتحمل تبعات أي حرب جديدة , اذا ما أخذنا بالاعتبار الى أين يمكن أن يصل الجنون الإسرائيلي . كما أن "حزب الله" ما زال يعاني من التداعيات الكارثية للحرب الأخيرة . ما يعني أن من الضروي عودة اللقاءات الحوارية بين الرئيس جوزف عون والنائب محمد رعد , بحثاً عن الطريقة الممكنة لوضع خارطة الطريق الخاصة بحصرية السلاح , وقد بلغت التهديدات الاسرائيليىة ذروتها , وبتغطية أميركية كاملة , بعدما كان وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس قد قال انه لا يثق , بأن الحزب سيسلم سلاحه تلقائياً , كاشفاً أن واشنطن حددت المهلة النهائية لنزع السلاح آخر العام الحالي .
لا ندري ما اذا كانت قيادة الحزب بصدد تفويض الرئيس نبيه بري التباحث في الحل مع رئيس الجمهورية الذي قد يكون قد تبلور لديه تصور ما حول معالجة المسألة , بعدما كانت القيادة إياها قد فوضت رئيس المجلس النيابي , وهو الضنين بمصلحة الدولة كما بمصلحة الحزب , اتخاذ ما يراه مناسباً بالنسبة الى اتفاق وقف النار . بمعنى أن البحث عن الحل بات ضرورة وجودية , في ضوء الاختلال في موازين القوى , وعدم وجود أي ظهير خارجي , في حين أن مطار بن غوريون احتفى , منذ أيام , بالطائرة رقم 1000 المحملة بالأسلحة والأعتدة الأميركية والألمانية والكندية , إضافة الى رسو السفينة 150 في الموانئ الإسرائيلية .
الوقت يمر سريعاً . وعندما يفترض بالحرب أن تكون مستحيلة , بعدما هددت تل أبيب بضربات أكثر وحشية , وأكثر اتساعاً , كيف يمكن أن يكون السلام مستحيلاً أيضاً . في حين تأتي النصائح أو التحذيرات من كل حدب وصوب , وعلى أساس أن هذه اللحظة تحتاج الى الكثير من الشجاعة , وبعدما تبين لقيادة "حزب الله" أن الحصار الداخلي أكثر خطورة بكثير . واذا كان الحزب قد وقف , في ذروة قوته , ضد أي صدام داخلي , وهو الذي على بيّنة من الجهات التي تدفع في هذا الانجاه , خصوصاً بعد التغيير الذي حصل في سوريا , وأدى الى حدوث تغيير دراماتيكي في معادلات القوة , ثمة من يرى ببعض الواقعية . استطراداً ببعض التنازل , انطلاقاً من مبدأ أن نخسر شيئاّ أفضل من أن نخسر كل شيء , ودون الالتفات الى ببغاءات (أو غربان) الشاشات , الذين , بغرائزية منقطعة النظير , يتولون التعبئة الطائفية والسياسية في أكثر وجوهها بشاعة , ما يعكس مدى الهلهلة في البنى السوسيولوجية للمجتمع وحتى للدولة اللبنانية , بقابلية الانفجار .
والطريف أنه مثلما يقال في تل أبيب أن بنيامين نتنياهو يذهب الى الحرب هرباً من الزنزانة , يقال في واشنطن أن ترامب يذهب الى المال هرباً من العاصفة التي بدأت تهز الحزب الجمهوري , بصورة تهدد "المسيرة الأمبراطورية" للرجل , لنكون أمام ذلك الكلام الأشبه ما يكون الى الهذيان حين يقول أن السلآم بفضله قام في الشرق الأوسط , وحيث ما يزال القتل اليومي في غزة , ودون أن يدري سكان القطاع أي مصير ينتظرهم بتحويل المقبرة الى "ريفييرا الشرق الأوسط" . بلغة صاعقة تحدث المعلق في مجلة "تايم" فريد زكريا عن ذاك السلام التراجيدي الذي "يرقد تحت الأنقاض" !
كم نكون سذّجاً اذا ما راهنا على ضمانات تقدمها إسرائيل , وهي التي تعتبر أنها "سحقت كل القوى المضادة" في المنطقة , ودون أن تلنزم , يوماً , بالمواثيق والقرارت الدولية , ما دامت الثقافة التوراتية قد أناطت بالقادة السياسيين , والعسكريين , الإسرائيليين صلاحيات ما فوق البشرية , ليس فقط لادارة الشرق الأوسط , وانما لادارة العالم . لا مجال أيضاً للضمانات الأميركية . أي ضمانات اذا كان ترامب قد قال ان ما فعله لإسرائيل لم يفعله أي رئيس آخر , بتقديم العرب قرابين الى يهوه , بعدما كان سفيره الى أورشليم مايكل هاكابي قد صرح بأن تغيير الشرق الأوسط سيكون بأبعاد توراتية .
ما علينا الا أن نقرأ التوراة لكي نكتشف ألا وجود لنا لا في المكان و لا في الزمان , ودائماً برغبة "رب الجنود" , أي يهوه الذي لا يرى فينا سوى الكائنات ما دون البشرية . في هذه الحال يحق لإسرائيل , وبتفويض الهي , أن تقرر متى تكون الحرب , وكيف يكون السلام , ليصرح الرئيس جوزف عون بأنه أطلق عدة مبادرات بهدف التفاوض لايجاد حلول مستدامة للوضع الراهن . لكنه لم يتلق أي ردة فعل عملية على الرغم من التجاوب الدولي معها , وكان آخرها عشية عيد الاستقلال .
من زمان قال لي الصحافي الفرنسي اليهودي (الليبرالي) أندريه فونتين , وكنت بصدد ترجمة كتابه عن الحرب الباردة , أن إسرائيل تتقن اللعب على نقاط الضعف لدى العرب , دون أن يعرف العرب , يوماً , نقاط ضعفها , والدخول الى منطقة اللاوعي لدى المجتمع الإسرائيلي . هكذا كان الصراع دوماً بين نقاط القوة الإسرائيلية ونقاط الضعف العربية .
اذا كانت السياسة الاسرائيليىة تقوم على العبث بنقاط الضعف اللبنانية , وحيث الضعف البنيوي بكل ما تعنيه الكلمة , لا يعود هناك من مجال لأي توازن ديبلوماسي , ما دام التوازن الاستراتيجي أكثر من أن يكون مستحيلا . لا ضمانات داخلية , حيث صراع الكراهيات على اشده , ولا ضمانات خارجية , وعلى أي وفد مفاوض أن يذهب الى ردهة المفاوضات , فقط ليوقع على صك الاستسلام .
المطلوب تعرية "حزب الله" عسكرياً وسياسياً . هنا المأزق الكبير , بل الأزمة الكبرى , ليبقى الرهان الوحيد على المساعي المصرية لبلورة مبادرة يمكن أن تقوم على معالجة متوازنة للمسألة التي تشترط (اسرائيلياً) إزالة "حزب الله" حتى من الخارطة السياسية والعسكرية , الأمر الذي تدعمه ادراة دونالد ترامب يقوة .
ويقال أن المسافة , بما في ذلك المسافة العاطفية , قصيرة جداً بين حارة حريك وعين التينة , اذا ما علمنا أي أثقال يحملها "حزب الله" على كتفيه , في هذه الحال لماذا لا يكون الرئيس نبيه بري صوت الحزب هذه المرة مثلما كان العام الماضي وفي الشهر إياه أيضاً ؟
ولكن عندما نعود الى الشروط التي طرحتها تل أبيب على دمشق , ندرك أي نوع من الشروط يمكن أن يفرض علينا . لنسأل اذا حدث وتم نزع سلاح "حزب الله" , هل يصبح لبنان في مأمن من مخالب الحاخامات . في كل الأحوال , الأولوية الآن , الأولوية الوجودية , أن تكون الحرب مستحيلة ...