الفاعوري يكتب.. نحو مرجعية وطنية فلسطينية موحّدة في لحظة ما بعد 7 أكتوبر

مثّلت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 نقطة تحوّل مفصلية في التاريخ الفلسطيني وفي بنية الصراع مع الاحتلال. فقد كشفت العملية هشاشة المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وخلّفت داخل المجتمع الصهيوني حالة وُصفت بأنها «صدمة وجودية» و«انهيار في الثقة» بمؤسسات الدولة، وهو ما انعكس في خطاب النخب السياسية والإعلامية على حدّ سواء.

وفي المقابل، أعادت العملية تثبيت مكانة المقاومة في الضمير الفلسطيني، ورسّخت حضورها بوصفها الفاعل المركزي الذي يعبّر عن الإرادة الجمعية في التحرر. كما شهد العالم موجة تضامن هائلة مع الشعب الفلسطيني—هي الأوسع منذ عقود—وتجلّت في حراك شعبي عالمي ضد الإبادة في غزة، وتنامي الأصوات الحقوقية المطالِبة بالمحاسبة، إضافة إلى تنامي الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية.

 

 

 

 
ad

ورغم هذا التحول التاريخي، بقي النظام السياسي الفلسطيني عاجزًا عن مواكبة اللحظة: الانقسام مستمر، مؤسسات منظمة التحرير مجمّدة، والإصلاح البنيوي غائب، والسلطة الفلسطينية تُبقي على نهج الإقصاء واحتكار التمثيل. هذا الفراغ القيادي والتنظيمي دفع المبادرات الوطنية في الخارج—مثل المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، والمؤتمر الشعبي الفلسطيني 14 مليون، والمؤتمر الوطني الفلسطيني—إلى محاولة استعادة زمام المبادرة وتشكيل إطار شعبي جامع يعيد بناء المشروع الوطني على أسس جديدة.

الرؤية:

نحو مرجعية وطنية فلسطينية موحّدة وديمقراطية

هذه الرؤية لا تنطلق من ردّ فعل، بل من قراءة استراتيجية للمرحلة. فـ ما بعد 7 أكتوبر ليس امتدادًا لما قبله؛ بل بداية زمن سياسي جديد يفرض إعادة تأسيس المشروع الوطني على قواعد التحرّر والشرعية الشعبية والمشاركة الواسعة.

لقد انتهت عمليًا معادلة أوسلو التي حكمت الحالة الفلسطينية لثلاثين عامًا. لم تعد قابلة للحياة، لا سياسيًا ولا شعبيًا ولا وطنيًا. والمطلوب اليوم مشروع جديد قادر على تمثيل الفلسطينيين كافة، واستثمار طاقاتهم في الداخل والشتات.

محاور الرؤية الأساسية:

  1. إعادة تعريف المشروع الوطني

– لم يعد المشروع الوطني مجرّد تفاوض أو تحسين شروط سلطة خاضعة للاحتلال، بل هو مشروع تحرّر شامل يقوم على:

– إنهاء نظام الأبارتهايد والاحتلال الاستعماري الاستيطاني.

– ضمان حق العودة والتعويض للاجئين بوصفه جوهر الهوية الفلسطينية.

– تحقيق تقرير المصير على كامل التراب الفلسطيني التاريخي، باعتبار فلسطين وحدة جغرافية وسياسية لا تقبل التجزئة.

  1. مركزية المقاومة:

المقاومة — بجميع أشكالها السياسية والقانونية والشعبية والعسكرية—ليست خيارًا تكتيكيًا، بل حق أصيل لشعب تحت الاحتلال وعمود أساس في المعادلة الوطنية.

وتؤكد الرؤية أن مركزية المقاومة لا تعني فصائلية القرار، بل دمج هذا الحق المشروع ضمن إطار وطني جامع يضمن وحدة القرار وتنوع الأدوات.

  1. التكامل بين ساحات العمل الفلسطيني

فلسطين ليست ساحات منفصلة:

غزة، الضفة، القدس، أراضي 48، والشتات—كلها جبهات متكاملة لا يمكن تحقيق مشروع التحرّر دون توحيدها في مرجعية واحدة.

ويمتلك الشتات طاقات سياسية وقانونية وإعلامية ضخمة يجب أن تتحول من دور «المساند» إلى دور شريك قيادي في المشروع الوطني.

  1. التمثيل الديمقراطي والشراكة الوطنية

أي صياغة جديدة للمشروع الوطني لا بد أن ترتكز على:

  • شرعية شعبية حقيقية لا شرعية مفروضة.

  • تمثيل نسبي شامل لجميع القوى والفصائل والاتجاهات.

  • انفتاح كامل على الإسلاميين والوطنيين واليساريين والمستقلين.

  • إشراك الشباب والمرأة بوصفهما ركيزة بنيوية لا ديكورًا سياسيًا.

  1. إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية

تبقى منظمة التحرير الإطار التاريخي المعترف به دوليًا، لكن ضعفها البنيوي وتآكل شرعيتها يفرضان إصلاحًا شاملًا وعاجلًا.

ولا تستهدف الرؤية تجاوز المنظمة، بل إصلاحها من الداخل وتوسيعها، مع تشكيل مرجعية شعبية موحّدة تضغط باتجاه الإصلاح وتمثّل الشعب الفلسطيني في حال تعطّل المسار الرسمي.

  • مرتكزات عملية لتجسيد المشروع الوطني الجديد

أولاً: إنشاء مكتب تنفيذي موحّد لفلسطينيّي الخارج

هيئة قيادية منتخبة تمثّل الجاليات والاتحادات والمبادرات الشعبية، وتختص بـ:

  • تنسيق التحرك السياسي والإعلامي والقانوني.

  • بناء علاقات دولية مع الحكومات والبرلمانات.

  • دعم المقاومة والصمود في الميدان.

  • تمثيل الشتات بصورة فاعلة ومنظمة.

ويتشكل المكتب وفق تمثيل مناطقي ونوعي (نساء، شباب، نقابات، أكاديميون)، ويتم انتخابه في مؤتمر عالمي واسع (حضوري–إلكتروني).

ثانيًا: مجلس وطني/شعبي لفلسطينيي الخارج

برلمان شعبي منتخب يضم مئات الممثلين من دول الشتات، مهمته:

  • رسم السياسات العامة.

  • الرقابة والمساءلة للمكتب التنفيذي.

  • اتخاذ القرارات الوطنية الكبرى باسم الشتات.

وتقوم العلاقة المؤسسية على قاعدة واضحة:

المجلس يشرّع ويراقب… والمكتب ينفّذ.

خاتمة:

لحظة الشجاعة وبداية البناء

لقد أكدت لحظة ما بعد 7 أكتوبر أن الشعب الفلسطيني قادر على قلب المعادلات وفرض إرادته الوطنية، وأن المقاومة—بأشكالها كافة—هي التعبير الأصدق عن روح التحرّر والصمود.

لكن هذه اللحظة تفرض مسؤولية تاريخية:

إعادة بناء البيت الفلسطيني على أسس ديمقراطية، وتأسيس مرجعية وطنية موحّدة تشارك فيها كل الساحات وكل القوى.

إن المبادرات الشعبية في الخارج تشكل فرصة نادرة لإعادة صياغة مشروع وطني جامع قادر على قيادة مرحلة جديدة من النضال السياسي والشعبي والقانوني، منفتح على العالم ومعبّر عن كل الفلسطينيين في الداخل والشتات.

إنها لحظة الشجاعة لا التردد،

ولحظة البناء لا الاكتفاء بالمواجهة،

ولحظة توحيد الجهود لا تكرار الانقسام.

الأمين العام للمنتدى العالمي للوسطية