حكمة المستور

اخبار البلد 
قد يكون من المكلف التحدث عن الشهامة بعيدا عن وجود أذرع لهذا الوحش الذي يسكن ابن آدم منذ دخوله الغيب و حتى الوصول إلى الغيب نفسه، لكنه يبدوا أن ولوج الحديث عن هكذا أمور من المنظورات التي لا بد النظر فيها، فإن كف، فهو غير كاف لتوخي الصدق في ما يراد له أن يكون واضحا، و لهذا تعد هذه المنظومة طريقا فسيحا يقود إلى جلاء الهشامة عن الشهامة، و هذه أيضا ترضى بعدم الوقوع في الغموض بابا مغلقا، فإلى أين نصل بتجاوز الباب المغلق؟
لعل من المبكّر النظر في الذكورية، لما هو مبحوث الآن، لكنها تبدوا بعيدة عـن الذكورية حتى و إن أخذت منها، بل أعتقد أنها تتخذ من الاثنيْن، و من الجنسيْن، فيكون للأوّل جانب خشن، و للثاني طرف ناعم، و هذا إن ميزنا بين الجوانب على سياق يبدوا تقليديا أكثر من التقليد المعروف.
فالشهامة رفعة عن الظلم بنوعيْه، و كسب لعزّة بعينها، تستمد قابليتها للبقاء، من بقاء استمرارية وجودها، أي أنها مشتركة في المبدأ، و مختلفة في التمفصل.
فعلى من لا يدري أنه متورط في آلية هذه، أن يدرك أيضا أنّه ضمن النطاق، و عليه فالدائرة مطابقة لدائرة الأحوال الأخرى من الحقوق، و هذا ما لا يقدر على استيعابه العقل المعتز بعقلانيته، و الرافض للاعتراف بمدى كينونة الصفات من كينونة اثبات أنّ للثبات نماذج، لا تصلح إلاّ لمحاربة السبات، و حتى هذا مرهون بجدية الوقوف لدى الشهم، و خروجه بمواقف تخدم شهامته، فلا يضمحل فكره على علوّ، و لا يقف ذهنه على قوام متحرك بألوان تخدع البصائر.
وعليه ففكرة كهذه، إن لم تتغذى من ستائر المعلوم منها، كانت كمن هجر السبات ليضاجع الميتات، أو على أقل تقدير، كالذي نسي أنّه بشر، و ظن أنه نبات، فلا أشياؤه تردّ عنه الغزوات، و لا جلده يحميه من اللدغات، و ما بين المبينات، يقع فكره الخائف من الجماليات.
الحذر مطلوب يا أولوا الصبر، و ما على الصابر إلاّ أن يدرك شهامته و لو بعد حين، خاصة إن جعلها وسيلة و ليست من الغايات، و هذا بأنّ السعي لا تعييه العثرات، بقدر ما توهنه الكلمات، فما أدرك الفشل إلاّ مختل عن شهامته، و عدم مكترث بالرفات، و ما ابتعد عن هذا الباب إلاّ مقيم، خدم الموضوع و لم يلتفت التفات.
فصَدق الصدّيق حين أمر بالعمل، و نهى عن حب العسل، لأنه يقود إلى الملل، و هذه إحدى العلل، التي يدركها العالِم دون الجاهل، و ينحرف عنها الأميّ العامل، و لو اختلف في ذلك كل معمل للعقل و فاعل. فكما في الشاشات عاجل، فإنّ من القلوب عاطل، و هذا يؤثر على كل عازل، يفرّق بين العقل و العاقل.
هنا يبدوا الأمر محتدم بالنكران، و يبدوا أيضا أنه من الايمان، أن يجهل الإنسان، و هذا من أجل العمران. 
فلا الأخير هو قائم، و لا الأوّل هو دائم، و لا بينهما واصل صارم. فكلّ منهم ينظر لحاله، و لكلّ حادثة محدثاتها، و محدثيها. و ما الجريمة إلاّ بينهما مقتسَمة، و ذات اشتراك في السمَة، و على من زاد اهتمامه بهذا، أن يعي أنها ذات فائدة رغم شرها، و خاصة لمن أراد من التي ذوتناها الآن نصيب نقول له: "لا يفهم الشهامة إلاّ الشهم، ولد شهما، و حافظ عليها نقية صافية" .
فكلّ ما سبق عبارة عن باطن، لا يظهر للعميان من ذوي البصر، لكنه متفق عليه من ذوي الألباب، و عليّ أن أكمل المسير في هذا الميدان، لأبيّن أنه كما هي مضرة الاستقالة من الباطن، فإنها شديدة الفتك من الظاهر.
فالمتخلي عن شهامته يقع في معصية أهل الحل، و يصاحب أهل البطلان، طلبا للبهتان، و يخيب أمام الناس كما يخيب أمام نفسه، حتى أنه يجهل خيبتاه معا، مع اصراره على الانغماس في تحطيم عزمه. فلا الناس قادرة على تغييره، و الأشياء لها امكانية اعادة تماسك فتات تهشمه. و ما بين الذي لاحق بما وصل إليه المبتدئ في الجهل فيما هذا الاتجاه نصيب بنصيب.
فعلى الأمر المدروس أن يكون محذورا منه، فالمضمر في المستور أعظم من قبح الظهور، و لا لهذا سبب عند الأوائل، و لا عند العقال، فكلهم يدرسون، و لكنهم لا يتوصلون، لما يشفي الواقعين أو الموقوفون.
وهنا نجد أن المنظورات تتصادم، لكنها تظهر مدى حاجة الإنسان لنفسه قبل حاجته لغيره. فهو قبل أن يكون اجتماعيا فهو بشريّ، و قبل أن يكون كذلك فهو ذاك، و قبل أن يكون كذلك و ذاك، فهو على الإنسانية موقّع، و متموقع في كل موقع.
فبجمع المواقع يتكوّن الكيان، و بجمع الكثرة من هذا الأخير ينتج المجتمع، الذي يستمد حياته من الأمة قبل الدولة " .... فهيبة الأمّة قد تكفلها لها أحيانا الأفكار، إذا ما تناغمت هذه الأفكار مع المرحلة التي تجتازها الإنسانية ....".1




السيّد: مـــزوار محمد سعيد



1. مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دار الفكر _ دمشق، ص118.