أسعار النفط ومن يحددها

لا بد للباحث أن يطرح السؤال المهم: لماذا أدت الأخبار الكثيرة والمحيرة إلى تراجع في أسعار النفط؟ وهل هنالك أسباب داخلية تتعلق بالكميات والأسعار، أم أن المؤثرات الخارجية قد دفعت بالطلب العالمي نحو الهبوط إلى مستوى جديد أدنى؟ ولعل المتابع لأهم الأخبار التي قال محللو أسواق النفط إنها تؤثر على سعره هي توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب على قانون إنهاء الإغلاق الحكومي الذي امتد لأكثر من ستة أسابيع، وهو الأطول في تاريخ أميركا. وثانيها هي الحرب التي لا تزال تشنها الولايات المتحدة على القوارب في البحر الكاريبي وقبالة فنزويلا، وترسل حاملات الطائرات إلى المنطقة، ما دفع برئيس فنزويلا نيكولاس مادورو لحشد أكثر من 200 ألف جندي على حدوده البحرية. وكذلك التنابز في التصريحات والتهديدات بين ترامب ورئيس كولومبيا غوستافو بترو.

وصرح الرئيس الأميركي وبعض المسؤولين هنالك بأنه ينوي الضغط على كبار منتجي النفط ليعوضوا عن النفط الذي تبيعه دول معادية لأميركا أو مناوئة لها مثل روسيا وإيران وفنزويلا، وربما نيجيريا، من بيع نفطها لأوروبا. ووعد بأنه سوف يجعل أوروبا تستغني استغناء كاملاً عن النفط والغاز الروسيين، وفعل هذا الأمر خلق في أسواق النفط تخمة في المعروض منه، ما جعل أسعاره تنخفض. وبالطبع هنالك أخبار لها مصداقيتها أن الرئيس ترامب يواجه في الولايات المتحدة أزمة ارتفاع الأسعار. وهذا يتطلب منه جملة من قرارات متعددة مثل قيام البنك الفيدرالي الأميركي بتخفيض سعر الفائدة مرة ثانية بمقدار 25 نقطة أساس كما حصل قبل مدة تقل عن شهر ونصف شهر. ويرى المحللون أن مثل هذا التخفيض سوف يحصل في شهر ديسمبر/كانون الأول القادم.

وقد أدت هذه الإشاعة إلى تراجع البورصات الأميركية (أوراق الدين والأسهم)، ولكنها تسعى لكي ترفع من الطلب على الأيدي العاملة في سوق العمل. وبالطبع، فإن مثل هذا الأمر سوف يؤدي إلى ارتفاع أسعار الذهب الذي استعاد بعضاً من خسائره خلال هذا الأسبوع، ولكن على حساب الدولار الذي انخفضت قيمته مقابل المعدن الأصفر وبعض العملات الرئيسية. إذا كان الدولار يتراجع وأسعار النفط حالياً تتراجع فمعنى هذا أن السياسة الأميركية قد تسببت في عقوبتين متراكمتين على منتجي النفط تتمثل فيه هبوط في سعر الخام الأسود بالأسعار الاسمية وهبوط القيمة الشرائية للسعر الاسمي المقبوض.

ويأتي هذا كله في الوقت الذي تنوي الولايات المتحدة فيه فرض جبايات مالية على منتجي النفط. ولعل المقياس الأفضل لمثل هذا الأمر هو اللقاء بين الأمير محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة العربية السعودية، والرئيس الأميركي في واشنطن. ولا شك أن ترامب مارس ضغطاً على ولي العهد السعودي مستغلاً كبر الإنفاق العام وتوسع العجز المالي في موازنة المملكة من أجل الدفع نحو إعفاء بنيامين نتنياهو من التهم بارتكاب مخالفات جسيمة، ومن أجل أن يضمن تخفيف الضغوطات الهائلة التي يتعاون فيها كثير من يهود الولايات المتحدة مع المحققين في قضية "إبستين". ومن أجل التمعن أكثر في مستقبل أسعار النفط، فإن عنصرين أساسيين سيؤثران على ذلك. أولهما مستقبل الطلب على النفط، وثانيهما مدى التوسع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

وفي ما يتعلق بأسعار النفط على المدى المتوسط والطويل، فإن الباحثين غيرلريسكي وستريفن نشرا مذكرة يوم الخميس الماضي 13 نوفمبر/تشرين الأول، يتوقعان فيها أن يرتفع الطلب على النفط السائل إلى 113 مليون برميل يومياً بحلول العام 2040، علماً أن الطلب على النفط قد سجل في العام 2024 ليصل إلى نحو 103.5 ملايين برميل في اليوم. ولعل الزيادة في الطلب على النفط سوف تأتي من زيادة الطلب على الكهرباء ومن صناعات البتروكيمياويات ومن الدول الكبيرة القادمة مثل الهند والصين. والسعي الأميركي لمحاصرة الدول المعادية لها من دخول سوق النفط العالمية حتى تزداد مبيعات الولايات المتحدة.

أما العنصر الثاني فيتعلق بزيادة الطلب على الكهرباء من أجل توفيرها لأغراض التوسع في الذكاء الاصطناعي المعتمد بقدر كبير في نجاحه على مدى توفر الكهرباء الرخيصة نسبياً. ويقدر الخبراء أن العالم سيشهد خلال العام 2030 أن الطلب على تطبيقات الذكاء الاصطناعي ستصل إلى ما مجموعه 10% إلى 12% من الكهرباء المنتجة في الدول الصناعية. ولكن الكهرباء هذه لن تأتي من النفط السائل وحده، بل من الغاز الطبيعي (LNG)، أو من مصادر الطاقة المتجددة. ولكن المرجح أن النفط الأحفوري سيبقى المهيمن على الطلب لإنتاج الكهرباء حتى العام 2055 على الأقل. ويبدو أن الاعتماد على المصادر المتجددة كالشمس والرياح لن يمنح مستخدمي الذكاء الاصطناعي الثبات في التيار الذي يمكنهم من الاعتماد المبرر على استدامة تزويد الكهرباء واستقرارها.

وسيكون لاستخدام الذكاء الاصطناعي (AI) أثرٌ مباشرٌ على كلفة استخراج النفط من ناحيتين. الأولى هي تقليل الاعتماد على القوى البشرية المطلوبة لاستخراج النفط ونقله وتكريره واستخراج الغاز ونقله وتكريره. وكذلك لأن انتاجية الآبار النفطية والغازية سوف ترتفع أكثر، ما يقلل من كلفتها. ولعل أهم المؤثرات على عمليات الاكتشاف (Exploration) هو موقع التنقيب والبحث وطبيعة الأرض وغيرها. وهذه تتفاوت كثيراً بين بئر وأخرى. ولكن استخدام وسائل الذكاء الاصطناعي ستسهل الأمر وتمكن من الوصول إلى أعماق أكثر وتيسر التنقيب في البحر (offshore) وغيرها.

وهنا يثور السؤال: هل الطمع في غزة من قبل الأميركان والإسرائيليين نابع أساساً من كبر أحواض الغاز في بحر غزة وداخل مياهها الإقليمية؟ وهل لهذه الأسباب تقوم المملكة العربية السعودية بالتركيز على الغاز في البحر في خمسة مواقع مبشرة؟ وهل ستتوسع دولتا الإمارات وقطر في البحث عن الغاز ومزيد من النفط؟ وكل هذه الأسئلة مشروعة ولا تغيب قطعاً عن انتباه صناع القرار في هذه الدول.

إذاً فالطلب على النفط سيطول أكثر مما توقع الجميع سابقاً. لا بل إن المفاجأة تكمن في أن هذا الطلب سوف يرتفع. وخلال العقد الثاني من هذا القرن، لم يزد حجم الطلب على النفط عن 100 مليون برميل في اليوم، ثم ارتفع خلال العقد الحالي بمقدار 3 ملايين برميل في اليوم. ولكنه مع حلول مطلع عقد الأربعينيات من هذا القرن، سيصل إلى 113.5 مليون برميل في اليوم.

والعالم العربي يسعى بكل ما أوتي من جهد لكي يرتب علاقاته مع الزبائن الذين يشترون نفطه وغازه. ويسعى كذلك إلى استعادة دوره الذي فقده في تراجع التنسيق بين أعضاء مجموعة أوبك+ (OPEC+)، التي ضمت في إطارها مجموعة دول أوبك بالإضافة إلى حوالي 13 دولة غير عضو وأهمها روسيا. والسؤال الذي يثور هنا: هل لنا مصلحة استراتيجية في أن نترك الولايات المتحدة تهيمن على أسواق النفط والغاز بدعوى أنها أكبر دولة منتجة للنفط من الأحواض ومن الرمال النفطية وغيرها؟

إن أسواق النفط والغاز المفتوحة أمام الدول العربية المنتجة للنفط هي دول تشكل تحدياً للولايات المتحدة مثل الصين. والتنسيق في إنتاج النفط مع روسيا مهم جداً للتحكم في العرض. ولكن سوق النفط التي استطاعت أن ترسم حدوداً تخدم مصالحها بين الطلب العالمي على النفط وكمية المعروض منه لم تعد ملك يمين "أوبك+"، بل استطاعت الولايات المتحدة ولو مؤقتاً أن تجير النفط والغاز من أجل خدمة مصالحها الاستراتيجية التي تنطوي على تكاليف باهظة على الاقتصادات العربية، التي هي في أمس الحاجة للأموال من أجل تنويع اقتصاداتها وتحديثها وجعلها أكثر مرونة واستجابة لمتطلبات الوطن العربي في دول الخليج أولاً ثم في باقي الدول العربية المأزومة.