ضرورة تحديث الاستراتيجية الصناعية الأردنية لتصبح خضراء

د. قاسم النعواشي

يشهد العالم تسارعا غير مسبوق نحو الاقتصاد الأخضر القائم على تقليل استهلاك الطاقة وحماية البيئة وتوظيف التكنولوجيا النظيفة لإيجاد فرص عمل. وفي إطار هذا التحول، يجد الأردن نفسه أمام لحظة مفصلية تستدعي إعادة صياغة دوره الصناعي بما يتلاءم مع تحديات المناخ وضغوط الاقتصاد واحتياجات السوق المحلية والإقليمية. ورغم وجود سياسات وطنية مهمة مثل سياسة الصناعة 2024 – 2028 ورؤية التحديث الاقتصادي واستراتيجية ترويج الاستثمار، إلا أن الفجوة لا تزال واضحة بين وثائق السياسات وفاعلية التنفيذ الفعلي لها. وهذه الفجوة لا تعني انتقادا للسياسات بقدر ما تدعو إلى تحويلها إلى مسارات وخطط عملية تعزز قدرة الصناعة على المنافسة والاستدامة.

يواجه القطاع الصناعي الأردني مجموعة من التحديات البنيوية التي أثرت في أدائه وجاذبيته للاستثمار. فارتفاع كلفة الطاقة مقارنة بدول الجوار ما يزال أحد أبرز أسباب تراجع تنافسية الصناعة، كما أن بطء تحديث خطوط الإنتاج وعدم قدرة كثير من المصانع على تبني التكنولوجيا الحديثة يحد من فرص النمو والتوسع. وإلى جانب ضعف الترابط بين الصناعات الصغيرة والمتوسطة من جهة والصناعات الكبرى من جهة أخرى، الأمر الذي يقلل من قدرة القطاع الصناعي على تحقيق التكامل والإنتاج بكفاءة أعلى. أما في جانب الموارد البشرية، فيبرز القصور في المهارات الفنية والرقمية، في وقت يتجه فيه العالم إلى التصنيع الذكي واستخدام الأنظمة الذكية وأجهزة الاستشعار والروبوتات لرفع جودة الإنتاج. وتتعمق هذه التحديات مع ازدياد الضغوط المناخية، مثل نقص المياه وارتفاع أسعار الطاقة، وهي عوامل تقلل من مرونة الصناعة وقدرتها على الاستمرار من دون تبني مسارات أكثر كفاءة واستدامة.

وتزداد أهمية تطوير رؤية صناعية خضراء واضحة مع بدء انعكاس التحول العالمي نحو الاقتصاد منخفض الكربون على بعض الصناعات التقليدية في الأردن. فقد شهدنا مؤخرا توجه شركات كبيرة، من بينها شركة مصفاة البترول، إلى تقليص أعداد من العاملين لأسباب تتعلق بالتحديث التكنولوجي. ورغم اختلاف دوافع هذه القرارات، إلا أنها تكشف عن واقع جديد يفرض على الأردن أن يمتلك خططا استراتيجية جاهزة لإدارة هذا التحول، حتى لا يتحول إلى مصدر لاضطراب اجتماعي أو اقتصادي. فالعاملون الذين يفقدون وظائفهم في هذه القطاعات يحتاجون إلى برامج إعادة تأهيل وتطوير مهارات جديدة تؤهلهم للاندماج في قطاعات صناعية واعدة وأكثر استدامة. وهذا جوهر مفهوم الانتقال العادل، الذي يضمن أن التحول نحو اقتصاد أخضر لا يتم على حساب الفئات الأكثر هشاشة، بل يوفر لها فرصا مهنية تحمي استقرارها وتساعدها على التكيف مع المتغيرات القادمة.
ومن المهم الإشارة إلى أن الصناعة تشكل ما يقارب ربع الصادرات الوطنية، وأن كلفة الكهرباء على القطاع الصناعي تعد من بين الأعلى في المنطقة. أما على مستوى التغيرات البنيوية، فالتسريحات الأخيرة في بعض القطاعات تؤكد أن التحول نحو اقتصاد أخضر ليس قضية بيئية فحسب، بل مسألة تمس الأمن الاجتماعي والاقتصادي، مما يتطلب تخطيطا استباقيا يوازن بين تحديث الصناعة وحماية العمال.

إن الأردن بحاجة إلى خطة تحول صناعي خضراء تترجم الرؤى والسياسات إلى خطوات قابلة للتطبيق. ويبدأ ذلك بتخفيض كلفة الطاقة على الصناعات عبر التوسع الحقيقي في أنظمة الطاقة الشمسية، وتعزيز إجراءات كفاءة الطاقة داخل خطوط الإنتاج، وربط الحوافز الحكومية بمستوى التزام المصانع بخفض الانبعاثات ورفع الكفاءة. ويعود سبب التركيز على الطاقة تحديدا هو أن الأردن يستورد أكثر من 76% من احتياجاته من الطاقة، الأمر الذي يجعل أي تقدم في هذا المجال مكسبا استراتيجيا للصناعة والاقتصاد الوطني.

ولا يكتمل التحول الصناعي من دون استثمار جاد في مهارات القوى العاملة. فالمصانع الحديثة تحتاج إلى عمالة قادرة على إدارة الطاقة والتحول الرقمي والتصنيع الذكي والاقتصاد الدائري، وهو النموذج الذي يقوم على إعادة استخدام الموارد وتقليل الفاقد. ومن دون تدريب ممنهج ومدعوم، ستظل الفجوة واسعة بين المهارات المتوفرة وما يطلبه السوق. ومن هنا، يصبح تطوير برامج إعادة تأهيل للعمال المتضررين من التحولات الصناعية خطوة ضرورية لضمان انتقال عادل وشامل.

ويعد تحديد القطاعات ذات الأولوية ركيزة أساسية في أي تحول صناعي ناجح. فبدلا من التسويق العام للاستثمار، يحتاج الأردن إلى توجيه جهوده نحو قطاعات أكثر تحديدا تمتلك القدرة على المنافسة وتوليد قيمة مضافة عالية مثل الصناعات الدوائية والكيماوية والغذاء والتكنولوجيا والصناعات الخضراء، حيث أثبتت هذه القطاعات قدرتها على التصدير واستيعاب التكنولوجيا والاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة. كما ينبغي بناء سلاسل قيمة صناعية محلية بحيث تعتمد المصانع على مواد أولية محلية للتقليل كلف الإنتاج وتقلل كذلك من هشاشة القطاع أمام تقلبات الأسواق العالمية. ولذلك يحتاج الأردن إلى تعزيز الشراكات بين المصانع الكبيرة والصغيرة، وتطوير منصات تربط الموردين بالمصنعين، وهذا سيعزز القدرة الذاتية للاقتصاد الوطني.

وبما أن الأردن لديه خبرات صناعية دقيقة، مثلا في قطاع الصناعات الدوائية والكيماوية والتصنيع الغذائي، فلا بد من الاستثمار الأمثل لهذه الخبرات. فيمكن لبرنامج وطني للمهارات الصناعية أن يعزز استثمار هذه الخبرات، وأن يربط التعليم والتدريب بحاجات المصانع الفعلية، مما يعزز فرص التشغيل ويحسن جودة الإنتاج. وهذا بدوره يرد على الانتقادات المتعلقة بوجود فجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل.

وختاما، يمتلك الأردن فرصة حقيقية ليصبح مركزا صناعيا منافسا في المنطقة، وخاصة في الصناعات الخضراء والتكنولوجية. لكن هذه الفرصة تتطلب الانتقال من مرحلة الخطط المكتوبة إلى مرحلة التنفيذ الواضح والدقيق. كما تتطلب استعدادا مسبقا لإدارة التحول الاقتصادي بطريقة عادلة لا تترك المتضررين على هامش المشهد. إن مستقبل الصناعة الأردنية لن يبنى على الرؤى وحدها، بل على القدرة على تنفيذ هذه الرؤى بطريقة تضمن التنافسية والاستدامة والاستقرار الاجتماعي.