هل استعادت إيران ثقتها بنفسها بعد الضربات الأميركية - الإسرائيلية ؟!
تبدو طهران اليوم وكأنها خرجت من حرب يونيو الأخيرة مع إسرائيل أكثر ثقة بنفسها مما كانت عليه منذ سنوات، رغم حجم الخسائر المادية والبشرية التي تكبدتها.
ووجد النظام الإيراني، الذي اعتاد توظيف الصراع مع إسرائيل كأداة لتثبيت شرعيته الداخلية وإظهار صلابته الإيديولوجية، في نتائج الحرب الأخيرة فرصة لإعادة صياغة صورته على الساحة الإقليمية والدولية بوصفه قوة صاعدة قادرة على تهديد تل أبيب وردع واشنطن في آنٍ واحد.
ويقول الباحث پاتريك كلاوسون في تقرير نشره معهد واشنطن إنه مع أن الكثير من المحللين في الغرب يقرّون بأن هذا الإحساس بالنصر الذي يعلنه القادة الإيرانيون يحمل قدراً كبيراً من المبالغة، إلا أن الأهم من ذلك هو أن طهران تؤمن فعلاً بأنها انتصرت، وأن هذه القناعة هي التي ستوجّه سياساتها المقبلة، سواء في الميدان العسكري أو على مستوى المفاوضات الدبلوماسية.
وخلال الأسابيع الأولى التي تلت الحرب، بدا أن القيادة الإيرانية تعاني من حالة ارتباك داخلي ناتجة عن الصدمة. فقد ظهر المرشد الأعلى علي خامنئي في خطابه بتاريخ 26 يونيو منهكاً، متردداً، ومفتقراً إلى الحماس الإيديولوجي الذي ميّز خطبه السابقة.
قناعة إيران أنها انتصرت هي التي ستوجّه سياساتها المقبلة، سواء عسكريا أو على مستوى المفاوضات الدبلوماسية
وكان تركيزه على القضايا الوطنية العامة، لا على مبادئ الثورة الإسلامية أو خطاب "المقاومة”، ما عكس لحظة ضعف نادرة في أداء القيادة الإيرانية. لكن هذا الارتباك لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما استعادت طهران خطابها المعتاد القائم على التحدي والتهديد، وهو ما بدا جلياً في خطاب خامنئي في سبتمبر، حيث حذر من "عملاء العدو داخل إيران”، واعتبر أي حديث عن التفاوض مع الولايات المتحدة "طريقاً مسدوداً”، داعياً بدلاً من ذلك إلى جعل البلاد أكثر قوة بدلاً من البحث عن تفاهمات مع الخارج.
ويعبّر هذا التحول من الارتباك إلى الثقة عن أحد أكثر أنماط السلوك ثباتاً في السياسة الإيرانية منذ أربعة عقود، فالنظام في طهران لا يسمح للهزيمة العسكرية أو الضغط الدولي بأن يتحولا إلى أزمة داخلية، بل يعيد تعريف الواقع على نحو يُظهره كمنتصر في كل الأحوال.
ومع خطاب 20 أكتوبر، عاد خامنئي إلى كامل نبرته القديمة، وراح يتحدث عن "الضربة القاصمة” التي تلقاها "الكيان الصهيوني”، مشيراً إلى أن الصواريخ الإيرانية أصابت "أعماق المراكز المهمة للنظام الصهيوني”، وأن القوات المسلحة الإيرانية ما زال لديها من الصواريخ ما يكفي لجولات أخرى إن لزم الأمر.
واللافت أن خطابه جاء مصحوباً بإشارة رمزية إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي قال إنه زار إسرائيل "لرفع معنوياتهم وإنقاذهم من يأسهم”، في إشارة واضحة إلى أن طهران باتت ترى نفسها طرفاً قادراً على إحباط الإرادة الأميركية والإسرائيلية معاً.
وهذه الثقة المتزايدة ليست مجرد دعاية سياسية، بل ترتكز على سردية متكاملة صاغها كبار المسؤولين الإيرانيين لتفسير الحرب الأخيرة بوصفها نصراً استراتيجياً.
وقد كان علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، أبرز من بلور هذه الرواية في مقابلة مطولة مع قناة "برس تي في”، أكد فيها أن إيران "حققت انتصاراً حقيقياً” رغم الخسائر الأولية.
وبرأي لاريجاني، فإن ميزان القوى انقلب تدريجياً لصالح طهران مع مرور الأيام، إذ "غاصت إسرائيل في المستنقع”، فيما حافظت إيران على قدرتها الصاروخية واحتفظت بموقع المبادِر حتى اللحظة الأخيرة.
واستشهد لاريجاني بتصريحات مسؤولين وإعلاميين إسرائيليين، مثل إيهود أولمرت وبتسلئيل سموتريتش، لتأكيد أن الرأي العام الإسرائيلي نفسه اعترف بتراجع أداء جيشه خلال الحرب.
وتعكس تلك الرواية الإيرانية، وإن كانت مبالغاً فيها من منظور عسكري دقيق، فإنها قناعة استراتيجية لدى صانعي القرار في طهران بأن "حرب الاستنزاف” الطويلة مع إسرائيل لم تعد تسير ضدهم. فإيران تعتبر أن استهدافها المباشر لمنشآت حساسة داخل العمق الإسرائيلي، مثل مصفاة حيفا وبعض المراكز البحثية، يمثل سابقة نوعية كسرت حاجز الردع التقليدي الذي ظلّت تل أبيب تتفوق فيه.
وحتى وإن كانت الخسائر الإسرائيلية محدودة أو مؤقتة، فإن رمزية وصول الصواريخ الإيرانية إلى هذه الأهداف تُعد في نظر طهران تحولاً جذرياً في معادلة الردع.
وفي المقابل، تبالغ طهران في تقدير أثر هذه الضربات على الوعي الإسرائيلي والأميركي، إذ تزعم أن تل أبيب "توسلت” إلى واشنطن لفرض وقف إطلاق النار خوفاً من اتساع نطاق الحرب.
وتُفسر تصريحات خامنئي ولاريجاني بهذا الشكل كنوع من "الردع النفسي”، تهدف من خلاله القيادة الإيرانية إلى تعزيز صورتها أمام الداخل والخارج بأنها صمدت في وجه التحالف الإسرائيلي – الأميركي، بل ونجحت في فرض شروطها.
ومع ذلك، فإن هذا النوع من الثقة قد يتحول إلى سلاح ذي حدين، لأنه يدفع النظام إلى الاستهانة بالمخاطر، والاعتقاد بأنه قادر على الصمود أمام أي مواجهة مقبلة مهما كانت كلفتها.
وبالنسبة لواشنطن، فإن هذا الخطاب الإيراني يحمل دلالات بالغة الأهمية. فإيران، التي يُفترض أنها خرجت من الحرب في موقع دفاعي ضعيف، تُصر على أنها في موقع القوة، ما يعني أن محاولات الضغط الدبلوماسي أو العسكري قد لا تؤدي إلى النتيجة المرجوة. بل إن طهران باتت ترى نفسها في موقع يمكنها من "انتظار” الغرب بدل أن تسعى إلى استرضائه.
ويبدو أن هذا الإحساس المفرط بالثقة هو ما يفسر فتور الاهتمام الإيراني بإحياء المفاوضات النووية في الشهور الأخيرة، رغم تدهور الوضع الاقتصادي الداخلي واستمرار العقوبات الأميركية.
وجاءت تصريحات المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي في الثالث من نوفمبر لتؤكد هذا الاتجاه حين قال إن تبادل الرسائل مع واشنطن "لا يعني استئناف المحادثات النووية”، مضيفاً أن "الظروف الراهنة ليست مناسبة لحوار ذي مغزى”.
وفي المقابل، لم يتوقف خامنئي عن تصعيد لهجته "المقاوِمة”، لا سيما في المناسبات الرمزية المرتبطة بالعداء للولايات المتحدة، مثل ذكرى اقتحام السفارة عام 1979، حين أكد أنه لا مجال لإعادة النظر في العلاقة مع الولايات المتحدة ما لم تتخلّ عن دعم إسرائيل وتنسحب من المنطقة.
وتوضح هذه الرسائل المتكررة أن طهران باتت تتبنى استراتيجية "الجمود المحسوب”: لا حرب شاملة ولا تسوية كبرى، بل استمرار في سياسة التحدي دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة.
ويضاف إلى ذلك أن تركيز الخطاب الإيراني الجديد على البرنامج الصاروخي أكثر من النووي يعكس تحولاً في الأولويات الدفاعية والاستراتيجية. فإيران، التي تدرك أن برنامجها النووي يثير إجماعاً دولياً ضدها، وجدت في الصواريخ وسيلة "أرخص وأضمن” لتحقيق الردع، ووسيلة يمكن تطويرها بسرعة أكبر وبتكلفة سياسية أقل.
وتشير تقارير عديدة إلى أن طهران تعيد بناء مصانع الصواريخ التي دُمرت خلال الحرب بمساعدة مواد مزدوجة الاستخدام من الصين، في وقت يركز فيه الرأي العام الأميركي على مراقبة الأنشطة النووية لا الصاروخية.
وهذا التحول قد يكون أخطر من التطوير النووي ذاته، لأنه يمنح إيران القدرة على فرض معادلة "الردع المتبادل” دون خرق مباشر للاتفاقات الدولية.
ويبدو من الواضح أن النظام الإيراني لم يفقد توازنه رغم الضربات التي تلقاها، بل ربما استخلص منها دروساً جديدة لتثبيت موقعه الإقليمي. فهو لا يتصرف كدولة تتوقع هجوماً وشيكاً، بل كقوة قادرة على الانتظار، تراهن على عامل الزمن وعلى تراجع الإرادة الغربية في خوض مواجهات مكلفة جديدة في الشرق الأوسط.
ومن هنا، فإن أي سياسة أميركية مستقبلية تجاه إيران يجب أن تبنى على افتراض أن طهران لن تتجه إلى تسوية شاملة، بل ستواصل السعي لفرض توازن ردع جديد يضمن بقاء النظام واستمراره.
لكن هذا لا يعني أن إيران تسعى حالياً إلى مواجهة عسكرية مفتوحة، بل إنها تُجيد كما في السابق استخدام "الصبر الاستراتيجي” كأداة لإرهاق خصومها.
ويدرك النظام في طهران أن اللحظة المناسبة للتحرك لا تأتي من خلال قرارات متسرعة، بل من خلال مراقبة نقاط الضعف في الموقف الأميركي أو الإسرائيلي واستغلالها عندما تسنح الفرصة.
وفي هذا السياق، فإن خطابات خامنئي لا تعكس فقط التوجهات العقائدية للنظام، بل هي جزء من عملية إدارة نفسية وسياسية تهدف إلى رفع الروح المعنوية الداخلية وتذكير الخصوم بأن إيران ما زالت رقماً صعباً في المعادلة الإقليمية.
ويكشف مجمل السلوك الإيراني بعد حرب يونيو عن استراتيجية "ما بعد الصدمة”: تحويل الخسارة إلى رمز للمقاومة، وتحويل الضعف إلى عنصر تعبئة.
وبقدر ما تبدو هذه الاستراتيجية ناجعة داخلياً، فإنها تنطوي على مخاطر كبيرة في المدى الطويل، لأنها تقوم على إنكار الواقع الميداني والاقتصادي، وتغذية الوهم بقدرة البلاد على تحدي العالم بأسره.
وإذا استمرت طهران في هذا النهج، فقد تجد نفسها في وضع شبيه بما عاشه الاتحاد السوفييتي في سنواته الأخيرة، حين أدى الإصرار على التوسع الخارجي إلى إنهاك الداخل.
ومع ذلك، فإن واشنطن وتل أبيب لا تستطيعان تجاهل حقيقة أن إيران تملك اليوم ما يكفي من القدرات العسكرية والسياسية لتقويض الاستقرار الإقليمي، سواء عبر قوتها الصاروخية أو عبر نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.