مستقبل التكتلات الإقليمية

عندما يتعلَّق الأمرُ بمستقبل التكتلات الإقليمية والجهوية ومتعددة الأطراف، يتبادر إلى الذهن سؤالٌ وجيه: هل يمكن فصلُ ما هو سياسي واستراتيجي عمَّا هو اقتصادي؟ لا أظن ذلك؛ فعندما عُقِدت قمة منظمة شنغهاي للتعاون لعام 2025 في الصين منذ أزيد من شهرين، فإنَّ القمة جسَّدت الأزمات الدولية المتشابكة التي تؤثر بشكل مباشر على أعضائها، وهي التي جعلتها تجتمع إيماناً منها بأنَّ هناك قواسم مشتركة بينها، بدءاً من المواجهة التجارية بين الولايات المتحدة وكل من الصين والهند، مروراً بالحرب الروسية على أوكرانيا، والملف النووي الإيراني والضربات العسكرية الإسرائيلية والأميركية على طهران، وصولاً إلى حرب إسرائيل على غزة وقضية تايوان، وكل هاته القضايا تخص بطريقة مباشرة وغير مباشرة دول المنظمة التي تشكل الجزء الأكبر من دول الجنوب الشامل، والنتيجة أن البيان الختامي جمع بين ما هو جيوسياسي واقتصادي، وحدد طريقة التموقع الأمثل لدولها في النظام العالمي الجديد، كما أن مجموعة «بريكس» التي تضم الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، بالإضافة إلى السعودية، والإمارات، ومصر، وإيران، وإثيوبيا، تشكل تقريباً نصف سكان العالم، وتتحكم في ثلث الاقتصاد العالمي، و44 في المائة من إنتاج النفط، ونجد في هاته المجموعة الدولتين المحوريتين روسيا والصين اللتين تسعيان لتحقيق توازن مع القوى الغربية، وإنشاء كيان مشابه للاتحاد الأوروبي، رغم صعوبة ذلك، للتأثير على المجريات الدولية لصالحها.

 

كما يمكن أن نذكر هنا مثال «الاتحاد من أجل المتوسط»؛ ففي سنة 2008، أنشئ «الاتحاد من أجل المتوسط»، وكنا من المنظّرين لهذا المشروع مع العديد من أصحاب الفكر والقلم والمشورة في الفضاء المتوسطي، بل وعقدنا لصالحه مؤتمرات وندوات دورية مهمة وبرامج عمل جريئة للتأصيل لنوع من الشراكة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية... وهذا الاتحاد ابتكار مؤسساتي يهدف إلى خلق آلية شاملة، موسعة ومرنة بين دول شمال وجنوب البحر الأبيض المتوسط؛ فهو يضم مجموع دول المنطقة الأورومتوسطية (أي 27 دولة من الاتحاد الأوروبي و16 دولة من الضفة الجنوبية والشرقية)، بما في ذلك الدول التي لا تمثل جزءاً من عملية برشلونة (البوسنة والهرسك، الجبل الأسود وموناكو). أما ليبيا، وهي الدولة الوحيدة التي لم تكن عضواً في «الاتحاد من أجل المتوسط» سنة 2008، فقد كانت حاضرة (منذ بداية 2013) كمراقب، وشاركت في اجتماعات الموظفين السامِين.

على المستوى الاقتصادي، بقي الاندماج الإقليمي ضعيفاً مقارنة مع دول أخرى في العالم مثل «منظمة دول جنوب شرقي آسيا» (22 في المائة) أو «السوق المشتركة للجنوب» (20 في المائة)؛ كما لا تزال العلاقات الاقتصادية البين إقليمية ضعيفة جداً؛ حيث لا تمثل التجارة بين دول المغرب العربي إلا 3.5 في المائة من مجموع المبادلات التجارية. أما في الشرق الأوسط، فالمبادلات التجارية بين الدول الجارة ضعيفة أيضاً، حيث لا تمثل إلا 6 في المائة من المبادلات التجارية. ففي مجموع هذه الدول، تتم التجارة بمجملها في الفضاء الاقتصادي الأوروبي الذي يستقبل أكثر من 60 في المائة من صادرات دول شمال أفريقيا، مما يؤدي إلى ضعف الاستثمارات في دول الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط بسبب ضيق الأسواق. كما يمكن لنا هنا أن نكتب أن حجم السوق، من المغرب إلى مصر، يعادل روسيا على مستوى الساكنة. لهذا، يعتبر الاندماج الإقليمي هدفاً ذا أولوية.

ولا غرو أنه كان لبناء المنطقة الأورو - متوسطية ومختلف المنظمات ومبادرات التعاون المقترحة منذ أزيد من ثلاثة عقود، ومن أشهرها عملية برشلونة التي بدأت سنة 1995، نتائج متناقضة على مستوى العلاقات الثنائية بين الاتحاد الأوروبي وشركائه في الجنوب، إلا أنها محدودة على المستوى السياسي بل وضعيفة على مستوى تعزيز التعاون الإقليمي الذي يُعتبر أحد الأهداف المركزية للشراكة الأورو - متوسطية؛ فالرغبة كانت أكيدة في أن نبني صرحاً جديداً انطلاقاً من بعض المكتسبات الإيجابية لعملية برشلونة وتجاوز المحبطات السياسية. وهنا المشكل... لأن القناعة تزداد عندنا يوماً بعد يوم أن العوامل السياسية هي عوامل محددة وليست بجانبية. فقد أخطأ استراتيجيو الاتحاد من أجل المتوسط، وعلى رأسهم الفرنسيون، في أنه بإمكانهم وضع المشكلات السياسية في الفضاء المتوسطي جانباً، والعمل في المجالات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية حصرياً. وهذا خطأ.

فلا غرو إذن أن العامل السياسي عامل محدد في العلاقات بين الكيانات والمجموعات والاتحادات، فإذا تم الإجماع على مكوناته، وكان هناك وجود لدول محورية في مجالاته، فإن هاته التكتلات يمكنها أن تنجح وتصبح فاعلاً مؤثراً إقليمياً ودولياً. أما إذا تبعثرت أوراق السياسة ولم يستطع الفاعلون فيها جمعها، فإنها تصبح قواقع فارغة ويتعطل عملها إلى حين.