تأملات في عبقرية الإهانة العربية


هناك شعوب إذا أرادت أن تُهينك قالت لك: "يا غبي” أو "يا أحمق”، وبالاكثر قد تنعتك باسم حيوان قرد كلب حمار دب …الخ، أمّا نحن العرب فقد أبدعنا فنًّا أدبيًّا قائمًا بذاته اسمه "الشتيمة الهويّاتيّة”؛ ذلك الفن العريق الذي يُمزج فيه الغضب بالأنساب، والعصبية بالأرض، حتى صار أصل الإنسان وقوميته وبلده جزءًا من ترسانته اللغوية في المعارك اليومية.
فنحن لا نكتفي بأن نغضب من بعضنا… لا، بل نُغضب أجداد بعضنا أيضًا، ونستدعي العصور الغابرة في لحظة انفعال عابرة.
في بلادنا الجميلة حيث تشرق فيها الشمس كل يوم لتجد الناس يتشاجرون على الفيسبوك يمكن أن تُصبح كلمة "فلاح” شتيمة، وكلمة "مدني” سخرية.
وكلاهما يظن أن الآخر نسخة ناقصة من الإنسان الكامل الذي يسكن في خياله.
المدني يرى الفلاح رمزًا للتخلّف، والفلاح يرى المدني مخلوقًا هشًّا لا يعرف من أين يأتي الخبز الذي يأكله.
وكأنهما نسيا أن المدينة من دون الريف تموت جوعًا، وأن الريف من دون المدينة يظل ينتظر الجرّار الذي لم يُصنع بعد
القبيلة، الطائفة، وحتى الحارة.
ولأننا قوم لا نرضى بالقليل، فقد وسّعنا دائرة الشتائم لتشمل كل شيء يمكن أن يُعبّر عن هوية.
نسخر من لهجة الآخر، من أكله، من لباسه، من لون بشرته، حتى من طريقة نطقه لحرف القاف.
صرنا خبراء في تحويل التنوع إلى تهمة، والانتماء إلى عيب.
لدرجة أنه لو اجتمع عربيان في صحراء مقفرة، فسيجدان خلال عشر دقائق على الأكثر سببًا قوميًّا للخصام.
واحد منهم سيقول للآخر: "أنتم دائمًا كذا!”، رغم أن "أنتم” في هذه الحالة لا تتجاوز شخصًا واحدًا وناقة.
في الغرب يتحدثون عن "نظرية المؤامرة العالمية”، أما نحن فلدينا نسختنا الخاصة: "المؤامرة القبلية المحلية”.
نظن أن البلدة المجاورة تكرهنا، وأن القرية على التل تتآمر علينا، وأن الحارة التي بعد الجسر كلّها أشرار بالفطرة.
ومع ذلك، حين نُسافر إلى بلادٍ بعيدة، نتحوّل فجأة إلى "إخوة”!
تجد ابن المدينة والفلاح والعشائري والطائفي مجتمعين في مطارٍ واحد يبتسمون لبعضهم:
كأن الوطنية لا تُثمر إلا خارج الحدود!
الشتيمة في بلادنا ليست مجرّد كلمات، إنها مرآةٌ ثقافيّة نرى فيها أنفسنا على حقيقتنا: نحبّ التمايز أكثر مما نحبّ التماسك.
نخترع الفوارق ثم نتقاتل عليها، نضحك من لهجاتنا المختلفة بدل أن نحتفي بها.
فحين تُصبح كلمة "فلاح” شتيمة، و”مدني” سخرية، ندرك أننا بلغنا ذروة العبث…
عبث يجعلنا نحتاج إلى شاعرٍ يكتب لنا مرثية في عقولنا، لا في أجدادنا.
وبالطبع، لم تكن "مدني” و”فلاح” سوى مثالين بريئين من قاموسٍ أطول من تاريخنا نفسه.
لكنني سأتوقف عندهما احترامًا لميزانيتي، فذكر باقي الشتائم سيستلزم مني توكيل محامٍ متفرغ حتى نهاية العام.
فقد علّمتني التجارب أن الحديث عن الشتائم العربية يشبه المشي في حقل ألغام:
كل خطوة قد تُفجّر "قضية رأي عام”!
ولذا سأكتفي بـ”المدني” و”الفلاح”… إلى أن يفتح أحدهم جمعية لحماية الكُتّاب من قوميات القرّاء!