ترامب إلى الصّين: صفقة تاريخيّة أم صخبٌ إعلاميّ؟
هل تكون زيارة دونالد ترامب للصين خطوةً جريئةً نحو إعادة رسم النظام العالميّ، أم عرضاً سياسيّاً جديداً لرجلٍ يجيد صناعة المفاجآت؟ هل يسعى الرئيس الأميركيّ إلى صفقةٍ تاريخيّة تُعيد واشنطن إلى قلب التوازنات الدوليّة، أم إلى مشهدٍ إعلاميٍّ يُنعش صورته قبل الاستحقاقات الانتخابيّة؟ وهل تسمح له بكين، التي باتت قوّةً اقتصاديّة كبرى، بأن يدخل ملعبها من موقع الندّ، أم تستقبله بحساباتٍ دقيقة تحفظ مصالحها الطويلة الأمد؟
حين أعلن الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب أنّه ينوي زيارة الصين مطلع العام المقبل، بدا التصريح للوهلة الأولى جزءاً من سلسلة مخرجاته الإعلاميّة التي يبرع في توظيفها لتوجيه الرأي العامّ. غير أنّه خلف تلك الكلمات تختبئ حسابات أكثر تعقيداً تتجاوز حدود البروتوكول الدبلوماسيّ فتلامس موازين القوى في العالم ومستقبل النظام الدوليّ نفسه.
ستكون الزيارة، أوّل اختبار حقيقيّ للعلاقة بين إدارة ترامب وبكين منذ تصاعد التوتّرات التجاريّة والتكنولوجيّة بين البلدين. واللقاء المحتمل مع الرئيس شي جين بينغ لن يكون مصافحة أمام عدسات الكاميرات وحسب، بل مواجهة بين رؤيتين للعالم: رؤية أميركيّة تتطلّع إلى استعادة القيادة عبر القوّة والمفاجأة، ورؤية صينيّة تراهن على الصبر والاستثمار الطويل لبناء نفوذ اقتصاديّ عالميّ.
حدث استثنائيّ؟
يرى كثيرون في واشنطن أنّ ترامب يغامر بزيارة الصين في توقيتٍ معقّد داخليّاً، إذ يواجه انتقادات من الحزبين معاً، ومحاولات من خصومه لتصوير أيّ تقارب مع بكين علامة ضعف أو مساومة. بعضهم يذهب أبعد من ذلك، معتبرين أنّ خصومه قد يسعون إلى تعطيل الزيارة أو إفشالها إعلاميّاً، لأنّ نجاحها قد يمنحه رصيداً سياسيّاً ضخماً في الداخل، وهو ما لا يرغب به منافسوه قبل الانتخابات المقبلة.
في المقابل، يبدو ترامب مصمّماً على تحويل الزيارة إلى حدث استثنائيّ في السياسة العالميّة، أشبه ما يكون بما فعله نيكسون حين زار الصين عام 1972، لكن بأسلوب استعراضيّ أكثر، قائمٍ على صفقات ضخمة ووعودٍ بـ”اتّفاقٍ تجاريٍّ خرافيّ”، كما وصفه هو. لكنّ الزمن تغيّر، والعالم لم يعد يرى في واشنطن القطب الأوحد، بل لاعب بين لاعبين كبيرين، أحدهما في بكين والآخر في موسكو. ومن هنا تأتي رمزيّة الزيارة: هل يسعى ترامب إلى صفقة تعيد واشنطن إلى قلب اللعبة؟ أم إلى مشهدٍ إعلاميٍّ يلمع فيه اسمه أكثر من مضمون أيّ اتّفاقٍ محتمل؟
الذين يعرفون ترامب يدركون أنّه لا يؤمن بالدبلوماسيّة البطيئة، بل بالصفقات السريعة والنتائج المرئيّة. هو رجل يرى السياسة كصفقةٍ تجاريّة، والخصم كمنافسٍ يمكن احتواؤه أو كسره، لا كشريكٍ يُبنى معه توازن طويل المدى. لذلك يتعامل مع الصين من منظور الربح والخسارة اللحظيّة، بينما تدير بكين علاقتها بواشنطن من منظور التاريخ والحضارة والصبر الممتدّ لعقود.
في السنوات الماضية، تبادلت القوّتان حرب الرسوم الجمركيّة، وتنافستا في ميدان التكنولوجيا والذكاء الاصطناعيّ وسلاسل التوريد. لكنّ ما يختبئ تحت هذا الصراع التجاريّ هو صراع على قيادة العالم المقبل: هل يكون القرن الحادي والعشرون أميركيّاً كما كان العشرون، أم صينيّاً كما يراهن كثير من المراقبين؟
ضرورة عالميّة
من هنا، قد تكون زيارة ترامب المقبلة أكثر من محاولة لتخفيف التوتّر، بل محاولة لفتح "نافذةٍ على التاريخ” يطلّ منها ترامب ليقول للعالم إنّه وحده القادر على التحدّث مع التنّين الصينيّ من موقع الندّ لا الخصم. فهو يدرك أنّ أيّ تفاهم، حتّى لو كان شكليّاً، مع بكين يمكن أن يُقدَّم داخليّاً كإنجازٍ تاريخيّ، تماماً كما قدّمت إدارة نيكسون اتّفاقها مع "ماو” ذات يوم كفتحٍ جديد في العلاقات الدوليّة.
غير أنّ السياق اليوم أكثر تشابكاً، فالصين لم تعُد الدولة الصاعدة فحسب، بل أصبحت الشريك التجاريّ الأكبر لعشرات الدول، والمموِّل الأساسيّ لمشاريع البنية التحتيّة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينيّة، أي أنّ التعامل معها لم يعُد خياراً سياسيّاً، بل ضرورة اقتصاديّة عالميّة. ولذلك أيّ خلل في العلاقة الأميركيّة – الصينيّة لا ينعكس على البلدين فقط، بل على أسواق العالم بأكملها، من أسعار الطاقة إلى حركة الشحن البحريّ، مروراً بالاستقرار النقديّ.
اللافت أنّ أصواتاً في واشنطن ترى أنّ ترامب يسعى من خلال هذه الزيارة إلى إعادة صياغة صورته العالميّة ليبدو رجل صفقاتٍ لا صانع أزمات. يدرك أنّ مشهد لقائه بالرئيس "شي” قد يعيد تقديمه أمام الناخب الأميركي كرجل دولةٍ قادرٍ على كبح التوتّر وإعادة التوازن. لكن في المقابل يعتقد البعض أنّ بكين لن تمنحه بسهولة هذا المشهد المنتصر، بل ستتعامل معه ببرودٍ مدروس، وتربط أيّ تفاهماتٍ بشروطٍ تضمن مصالحها الاستراتيجيّة.