الإصلاح السياسي بين النصوص والقيود:المادة 15 نموذجًا بقلم الدكتور عصام عبد الجليل الكساسبة



كل يوم نتحدث عن الإصلاح السياسي…
عن الانفتاح، والتعددية، والمشاركة الحزبية، والتمكين النقابي.
لكننا، حين نصل إلى التطبيق، نصطدم بجدار صلب اسمه المادة (15) من قانون الجرائم الإلكترونية، تلك المادة التي تحولت من نص يُفترض أن يحمي المجتمع، إلى سيفٍ مسلط على رقاب الناس.
فمنذ أن دخل القانون حيّز التنفيذ، صار أي نقد لمسؤول، أو تساؤل حول أداء دائرة أو مؤسسة، يُقرأ من زاوية "نية الإساءة”، لا من زاوية "الحق في المحاسبة”.
وبينما ينادي الدستور بحرية الرأي والتعبير، تُغلق النصوص الحديثة الأبواب أمام كل من يحاول أن يمارس هذا الحق فعليًا.
لقد أصبحت المادة 15 أشبه بعصا سحرية في يد بعض المسؤولين:
يرفعها في وجه كل من يجرؤ على الكلام،
ويضرب بها كل من كتب رأيًا أو نشر تساؤلًا أو عبّر عن استياء.
لكنها في النهاية – وبعد رحلة طويلة بين المحاكم والمحامين – تسقط أمام عدالة القضاء،
ويخرج المتهم ببراءة، لأن النقد البنّاء ليس جريمة، بل واجب وطني.
ومع ذلك، تبقى آثارها النفسية والمجتمعية أخطر من العقوبة نفسها؛
فالناس اليوم تخاف أن تكتب، والصحفي يخشى أن يسأل، والناشط يفضّل الصمت على المواجهة.
وهكذا نصبح أمام إصلاح سياسي شكلي لا جوهري،
دولة تتحدث عن المشاركة، لكنها تخشى من الرأي الآخر.
الإصلاح السياسي لا يُقاس بعدد الأحزاب المسجلة،
ولا بعدد الشعارات التي تُرفع في المؤتمرات،
بل يُقاس بقدرتنا على تحمّل النقد قبل التصفيق،
وباحترامنا لحرية الكلمة قبل حماية الكرسي.
ومن الناحية القانونية، فإن إعادة النظر في هذه المادة بات ضرورة وطنية ملحّة،
فالمشرّع لم يقصد بها كبح الرأي، بل الحد من الإساءة،
لكن التطبيق العملي جعلها مطاطة تُفسَّر حسب المزاج والمصلحة.
وهذا يتنافى مع مبدأ الشرعية الجنائية الذي يقضي بأن "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص واضح”.

المطلوب اليوم:
أن يُعيد مجلس النواب ترتيب الأولويات،
وأن يعلن بوضوح أن الإصلاح السياسي لا يكتمل بوجود نصٍ يخنق حرية التعبير.
نريد قانونًا يحمي الدولة والمجتمع دون أن يحول دون قول الحقيقة،
قانونًا يفرق بين "الناقد الشريف” و"المحرض المسيء”،
قانونًا يعيد الثقة بين المواطن والمسؤول.

فالوطن لا يُبنى بالصمت،ولا يصان بالمجاملة،
ولا يتقدّم إلا حين يكون الرأي الحر جزءًا من منظومة الحكم لا خصمًا لها.