المخدرات الرقمية… حين يتسلّل الإدمان عبر الأذن لا الإبرة
لفتني وأنا أتابع محاضرة للأستاذة الكويتية احترام موسوي عبر موقع "يوتيوب" بعنوان ( المخدرات الرقمية تهدّد عقلك من دون أن تدري)، ذلك الطرح الجريء الذي فتح باباً واسعاً أمام تساؤلات جديدة عن شكلٍ مختلف من الإدمان، لا يحتاج إلى مادة تُحقن أو تُستنشق، بل إلى سماعة أذن وملف صوتي لا تتجاوز مدته دقائق.
هذا العالم الرقمي الجديد الذي يتسلّل في صمت، يكشف لنا كيف يمكن للتكنولوجيا أن تتحول من أداة معرفة إلى بوابة خفية للسيطرة على الوعي وتوجيه السلوك.
ماهية الظاهرة
المخدرات الرقمية هي ملفات صوتية تُنتج باستخدام ما يُعرف بتقنية التذبذبات ثنائية الأذن (Binaural Beats)، بحيث يُبثّ لكل أذن صوت بتردد مختلف قليلاً، فيُنتج الدماغ تردداً ثالثاً داخلياً يتسبب بتغيّر مؤقت في الموجات العصبية.
يُسوّق لهذه الملفات على الإنترنت بوصفها طريقة "آمنة” للاسترخاء، أو للحصول على شعور بالنشوة والراحة الذهنية دون تعاطي أي مواد كيميائية.
لكن ما يبدو تجربة "بريئة” قد يتحول إلى اعتماد نفسي وسلوكي خطير، لأن الدماغ يبدأ بربط الإحساس بالراحة أو المتعة بهذه الأصوات، فيتحول الاستماع المتكرر إلى إدمان غير مادي، أشد خفاءً من الإدمان التقليدي.
البعد النفسي والاجتماعي
خطورة المخدرات الرقمية تتجاوز الجانب التقني إلى جوهر الأزمة التربوية والاجتماعية. فالمراهق أو الشاب الذي يبحث عن هذا النوع من "الهروب الإلكتروني” ليس بالضرورة منحرفًا، بل غالبًا يعاني من فراغ داخلي، وضغط نفسي، وشعور بالانعزال أو فقدان الجدوى.
في بيئة يغيب فيها الحوار الأسري، وتضعف فيها مناعة التفكير النقدي، يصبح العقل الشاب أرضًا خصبة لأي محفّز زائف يمنحه وهم الراحة أو الإلهام.
هذه الظاهرة ليست مجرد "مشكلة تكنولوجية”، بل نتاج لفجوة تربوية وثقافية، ولتراجع دور المدرسة والجامعة كمؤسسات تُربّي على الوعي وليس فقط على النجاح الأكاديمي.
التعليم والتعلّم كخط دفاع
يجب أن ندرك أن المدرسة ليست مكانًا لتلقين المعرفة فحسب، بل لبناء الوعي الذاتي. فالتربية الرقمية والتثقيف النفسي يجب أن يصبحا جزءًا من المنهج الدراسي، لا ملحقًا هامشيًا.
على المعلم أن يكون أول من يدرك التحديات الجديدة في عالم الطلبة، وأن يتحول التعليم من التلقين إلى تعلم نقدي وتأملي، يُساعد المتعلم على طرح الأسئلة لا الانصياع للإغراءات.
إن تعليم التفكير النقدي، والوعي بالذات، وفهم آليات عمل الدماغ والوسائط الرقمية، يمكن أن يُشكّل درع الوقاية الحقيقي أمام ظواهر مثل المخدرات الرقمية، والألعاب العنيفة، والإدمان على الشاشات.
وهنا تتضح أهمية الاستثمار في تدريب المعلمين والمشرفين التربويين، لأن التعليم الواعي هو خط الدفاع الأول ضد الجهل التقني والانجراف السلوكي.
المسؤولية الأمنية والشرطية
ليست الأجهزة الأمنية بعيدة عن هذه المعركة الجديدة، فالمخدرات الرقمية تُدار من خلال منصات رقمية وشبكات مظلمة تستغل جهل الشباب بالمخاطر، وتُدرّب بعضهم على أنواع من الإدمان السلوكي تمهّد لاحقًا للانتقال إلى الإدمان الحقيقي.
ولذلك، فإن الأمن الرقمي أصبح مكملاً للأمن المجتمعي.
على أجهزة الأمن والشرطة أن تطور وحدات متخصصة في رصد المحتوى الصوتي المشبوه، ومتابعة قنوات الترويج للمخدرات الرقمية، والتعاون مع وزارات التربية والصحة والإعلام في حملات توعية متكاملة.
كما يجب تدريب الكوادر الشرطية على فهم الظواهر النفسية والسلوكية المتصلة بالإدمان التكنولوجي، لتصبح المعالجة وقائية وتوعوية بقدر ما هي ضبطية.
إضافة إلى ذلك، يمكن للأجهزة الأمنية أن تطلق بالتعاون مع الجامعات منصات وطنية للرصد الرقمي، تُحلل الاتجاهات الجديدة في الاستخدامات الخطرة للإنترنت وتصدر تقارير دورية حولها.
التوصيات
1. وزارة التربية والتعليم: دمج التربية الرقمية والنفسية في المناهج، وتدريب المعلمين على توجيه الطلبة نحو الاستخدام الآمن للتكنولوجيا.
2. وزارة الصحة: إعداد برامج دعم نفسي ومراكز استشارة رقمية متاحة للشباب الذين يعانون من اضطرابات الاستخدام أو الإدمان السلوكي.
3. وزارة الإعلام والاتصالات: مراقبة المحتوى الترويجي للمخدرات الرقمية، وتنظيم حملات توعية إعلامية متواصلة بمشاركة مؤثرين تربويين وأطباء نفسيين.
4. الشرطة وأجهزة الأمن :إنشاء وحدات متخصصة في الجرائم الرقمية تتعامل مع هذا النوع من الملفات، وتتابع مصادرها وشبكات توزيعها، وتضبط الترويج عبر الإنترنت.
5. الجامعات ومراكز الأبحاث: تشجيع الدراسات حول الإدمان السلوكي والمخدرات الرقمية من منظور علم النفس التربوي والعلوم العصبية.
6. المؤسسات الدينية والمجتمعية: توظيف الخطاب الديني والوطني في تعزيز قيم التوازن والوعي الذاتي والمسؤولية الفردية تجاه الجسد والعقل.
خاتمة
المخدرات الرقمية ليست موجة عابرة من "الترندات” الإلكترونية أو مجرد "موضة شبابية”، بل انعكاس لعصرٍ فقد فيه الإنسان السيطرة على أدواته. فالخطر الحقيقي ليس في الصوت ذاته، بل في الصمت الاجتماعي والتربوي الذي يترك أبناءنا دون مناعة فكرية. إن مواجهة هذا النوع من الإدمان لا تكون بالحظر وحده، بل ببناء عقلٍ ناقد، قادر على أن يُفرّق بين متعة المعرفة وعبودية التوهّم. فحين نفقد الوعي بما نسمع، قد نُدمن دون أن ندري.
وإذا لم يتحول التعليم إلى مشروع وعي، والأمن إلى شريك تربوي، والإعلام إلى أداة تثقيف، سنجد أنفسنا أمام أجيال تُدمن "الفراغ” لا المخدرات.
لقد كان تحذير الأستاذة احترام موسوي أكثر من محاضرة، كان نداءً لليقظة ( الخطر يبدأ حين نغلق آذاننا عن الوعي، لا حين نفتحها للصوت.)