الإطار القانوني لحماية الاقتصاد الأردني في مواجهة تقلبات الأسواق العالمية
في سياقٍ متسارع من التقلبات العالمية التي تشهدها أسواق الطاقة والمعادن والمال، تبدو المملكة الأردنية الهاشمية - باعتبارها اقتصادًا صغيرًا ومفتوحًا- أمام اختبارٍ حقيقي لقدرتها على الصمود أمام الصدمات الخارجية. وفي ظلّ هذه التقلبات المتسارعة التي يشهدها الاقتصاد العالمي خلال عام 2025، يجد الأردن نفسه أمام تحدٍّ مزدوج يتمثل في تأثيرات أسواق الطاقة والسلع الأساسية من جهة، والتشديد النقدي وارتفاع أسعار الفائدة العالمية من جهة أخرى.
ومن هنا، لا تقتصر الحماية الاقتصادية على السياسات المالية والنقدية فحسب، بل تمتدّ إلى الإطار القانوني المنظّم للاقتصاد الوطني، بوصفه الدرع التشريعي الذي يضمن التوازن بين متطلبات النمو والاستقرار، ويحدّ من أثر الاضطرابات الخارجية على الموازنة العامة والاقتصاد الكلي.
فقد شهدت أسواق النفط منذ مطلع الربع الأخير من عام 2025 تذبذبًا حادًا في الأسعار، إذ تراوح سعر خام برنت بين 57 و62 دولارًا للبرميل في منتصف أكتوبر، بعد أن كان قد تجاوز حاجز 80 دولارًا قبل أشهر قليلة. هذا التراجع النسبي في الأسعار لا يُعدّ مريحًا للأردن بالضرورة، نظرًا لاعتماده الكبير على استيراد النفط ومشتقاته، إذ تؤدي هذه التقلبات إلى صعوبة في التنبؤ بفاتورة الطاقة السنوية، وبالتالي إلى ضغوط على بند دعم الطاقة في الموازنة العامة. وكلما انخفضت الأسعار عالميًا، تحسّنت مؤقتًا كلفة الاستيراد، لكن عدم الاستقرار يجعل التخطيط المالي صعبًا ويزيد الحاجة إلى احتياطيات نقدية مرنة تمتص الصدمات.
أما أسعار الذهب فقد سجلت ارتفاعًا تاريخيًا في أكتوبر 2025، إذ تجاوز سعر الأونصة 4،200 إلى 4،300 دولار أميركي، وهو أعلى مستوى لها منذ عقود. هذا الارتفاع يعكس توجه المستثمرين نحو الأصول الآمنة نتيجة التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وآسيا، ومخاوف الركود في أوروبا. ورغم أن تأثير الذهب على الاقتصاد الأردني غير مباشر، إلا أن صعوده يؤثر في تقييم الأصول الاحتياطية الدولية ويُظهر تراجع الثقة في الأسواق المالية التقليدية، وهو مؤشر على اضطراب النظام المالي العالمي الذي يعتمد عليه الأردن في تمويل جزء من احتياجاته.
وفي ذات السياق، لم تنجُ الأسواق العالمية من ضغوط التضخم التي استمرت للعام الثالث على التوالي، إذ أشار صندوق النقد الدولي في تقريره لشهر أكتوبر 2025 إلى أن معدلات التضخم العالمية تراجعت لكنها ما تزال فوق المستويات المستهدفة، مع بقاء متوسطها بين 4.8 % و5.2 % على مستوى الدول النامية. هذه الزيادة تضغط بشكل غير مباشر على الأسعار المحلية في الأردن، خاصة في قطاعات الغذاء والطاقة والنقل، حيث تعتمد المملكة على الاستيراد في أكثر من 80 % من احتياجاتها الغذائية والطاقوية.
وبالنتيجة، تضعف القدرة الشرائية للأسر، وتزداد الحاجة إلى سياسات حكومية لحماية الفئات محدودة الدخل، سواء عبر دعم مباشر أو عبر تشريعات تراقب الأسعار وتمنع الاحتكار، وذلك لضمان العدالة الاجتماعية في مواجهة الموجات التضخمية العالمية.
ومن جهة أخرى فإن ارتفاع أسعار الفائدة عالميًا ستنعكس سلباً على كلفة الدين العام الأردني، حيث إنه وفي سياق مكافحة التضخم، اتخذ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خلال عام 2025 سياسات نقدية أكثر تشددًا، فبلغ نطاق سعر الفائدة الأساسي نحو 4.00 % إلى 4.25 % في أكتوبر 2025. ونتيجة لذلك، ارتفعت كلفة الاقتراض الدولي وتزايدت عوائد السندات في الأسواق العالمية.
هذه التطورات أثّرت بصورة مباشرة على الأردن، الذي يعتمد في جزء من تمويل موازنته على الاقتراض الخارجي وإصدار السندات الدولية. ومع بلوغ الدين العام الأردني مستويات تتجاوز 110 % من الناتج المحلي الإجمالي وفق تقديرات الربع الثالث لعام 2025، فإن أي زيادة في أسعار الفائدة العالمية ترفع تلقائيًا كلفة خدمة الدين وتضغط على الميزانية العامة. ومن ثمّ، يتعيّن على الحكومة الأردنية اتباع سياسة مالية أكثر حذرًا، وإعادة هيكلة بعض القروض طويلة الأمد لتخفيف أثر هذه الزيادات على الاقتصاد الكلي.
وعلى صعيد الاستثمار، فإن استمرار حالة التوتر في الإقليم، سواء في غزة أو البحر الأحمر، ألقى بظلاله على حركة رؤوس الأموال في المنطقة. وقد لاحظت تقارير وزارة الاستثمار الأردنية أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر خلال النصف الأول من عام 2025 ارتفعت بنسبة تقارب 12 % مقارنة بعام 2024، نتيجة ثقة نسبية بالإصلاحات الاقتصادية والتشريعية التي أطلقتها الحكومة، وخاصة قانون بيئة الاستثمار الجديد لعام 2022.
لكن في المقابل، فإن هذه التدفقات تبقى هشة أمام أي اضطرابات جديدة في الأسواق النفطية أو المالية العالمية، إذ يميل المستثمرون إلى تجميد مشاريعهم أو تحويل وجهتهم نحو اقتصادات أكثر استقرارًا. ومن هنا، فإن التحدي الحقيقي أمام الأردن يتمثل في بناء بيئة قانونية واستثمارية مستقرة تحافظ على استدامة الاستثمارات رغم تقلبات الإقليم.
يتّضح من هذا العرض أن المشهد الاقتصادي العالمي يمارس تأثيرًا مركّبًا على الاقتصاد الأردني، عبر ثلاثة مسارات رئيسة: الطاقة، والتضخم، والفائدة، يضاف إليها أثر غير مباشر من اضطرابات الأسواق المالية وحركة رؤوس الأموال. ومع أن الأردن تمكّن خلال السنوات الأخيرة من بناء شبكة تشريعية واقتصادية مرنة، إلا أن استمرار التقلبات يفرض عليه ضرورة تطوير أدوات قانونية واقتصادية أكثر استباقية، تُقلل من حساسيته تجاه الخارج وتُعزز استقلال قراره المالي والاقتصادي.
وفي هذا الإطار سعت المملكة خلال الأعوام الأخيرة إلى بناء بنية تشريعية حديثة تُعزّز ثقة المستثمرين وتوسّع قاعدة الاقتصاد. فقد أُقرّ قانون بيئة الاستثمار رقم 21 لسنة 2022 الذي دخل حيّز التنفيذ مطلع 2023، ليمنح المستثمرين المحليين والأجانب معاملة متساوية، ويُسهّل إجراءات التأسيس، ويوفّر حوافز للإنتاج والتصدير. كما أُدخلت تعديلات على قوانين التأمين وحماية المنافسة والاستهلاك، في مسعى لتحقيق توازن بين النمو والاستقرار. غير أنّ التحدي الحقيقي يبقى في تفعيل هذه القوانين، وتحويلها إلى أداة استباقية لحماية الاقتصاد لا مجرد استجابة بعد وقوع الأزمات.
حيث تُظهر التجارب المقارنة أنّ الدول التي نجحت في مواجهة تقلبات الأسواق العالمية لم تعتمد فقط على احتياطاتها المالية، بل على أطر قانونية محكمة نظّمت العلاقة بين الإيرادات والنفقات وأمّنت استقرارًا طويل الأمد.
ففي النرويج، مثلًا، جرى إنشاء الصندوق السيادي بموجب قانون صارم يحوّل عائدات النفط إلى استثمارات طويلة الأجل، ويضع سقفًا محددًا للإنفاق الحكومي من عوائده، ما مكّن البلاد من امتصاص صدمات أسعار النفط دون الإضرار بالموازنة أو سعر الصرف. هذه التجربة تُبرز كيف يمكن للقانون أن يتحول إلى أداة لإدارة الدورات الاقتصادية لا ضحية لها.
وفي السياق ذاته، واجهت تشيلي تقلبات أسعار النحاس عبر تشريع خاص بصندوق استقرار مالي يقتطع جزءًا من العائدات في فترات الارتفاع ويُعاد توجيهه عند الانخفاض، مما حقق استقرارًا ملحوظًا في الإنفاق العام رغم تذبذب الإيرادات. وهي صيغة يمكن للأردن محاكاتها بالنسبة لسلع إستراتيجية كالفوسفات والبوتاس.
أما البرازيل، فقد قدّمت نموذجًا مختلفًا ركّز على العدالة الاقتصادية من خلال قانون وطني ينظّم التحويلات النقدية المشروطة ضمن برنامج "بولسا فاميليا"، الذي ساهم في تقليص معدلات الفقر وحماية الفئات الهشّة عبر آليات شفافة ومستقرة. ويُظهر هذا النموذج أن الإطار القانوني لا يحمي الأسواق فحسب، بل يمكن أن يصون التوازن الاجتماعي أيضًا، وهو ما يحتاجه الأردن عبر تحويل برامج الدعم الحالية مثل "تكافل" و"المعونة الوطنية" إلى منظومة قانونية دائمة وأكثر فاعلية.
وإذ تُظهر التجارب الدولية أن التشريع الذكي كان هو العامل الحاسم في تحقيق المرونة الاقتصادية، فإن ترجمة هذه الدروس إلى الواقع الأردني تتطلّب خطوات عملية تتجسّد في تطوير إطار قانوني جديد أكثر استدامة وابتكارًا. وفي هذا السياق، يمكن اقتراح مجموعة من القوانين المتكاملة التي تُرسّخ الاستقرار وتُعزّز العدالة الاقتصادية:
قانون الصندوق الوطني للاستقرار المالي والاقتصادي، الذي يُخصّص لاستثمار الفوائض والعوائد غير المتكررة مثل إيرادات الفوسفات والبوتاس، بهدف حماية الموازنة في فترات الركود، على غرار تجربة النرويج في إدارة صندوقها السيادي، مع ضمان حوكمة مستقلة وشفافية عالية في الإدارة.
إلى جانب ذلك، يأتي قانون القاعدة المالية المرنة (Fiscal Stability Rule) ليُلزم الحكومة بتطبيق قواعد مالية مضادّة للدورات الاقتصادية، تُحدّد نسب العجز والفائض وفق أسس هيكلية طويلة المدى، بما يحقّق استقرار السياسات المالية ويحدّ من التقلبات، وهو ما تفتقر إليه المنظومة التشريعية الأردنية حتى الآن.
كما يُقترح قانون تنظيم أسواق السلع والحد من المضاربة لضبط تداول السلع الأساسية كالقمح والوقود، ومنع الممارسات الاحتكارية والمضاربات المفرطة في أوقات الأزمات، بحيث يكمّل هذا القانون التشريعات الحالية كقانون المنافسة دون تكرارها، مع تفعيل أدوات رقابية شفافة ومؤقتة عند الضرورة.
تُثبت التجارب الدولية أن القانون يمكن أن يكون خط الدفاع الأول عن الاقتصاد في مواجهة الاضطرابات العالمية، شرط أن يكون واضحًا، متماسكًا، وقابلاً للتنفيذ. وفي حالة الأردن، فإنّ استكمال البنية القانونية عبر قوانين استقرار مالي وعدالة اجتماعية وتنظيم للأسواق يمكن أن يُعيد تشكيل العلاقة بين السياسة والاقتصاد، من التفاعل اللحظي إلى الإدارة المستدامة. فالتحديات العالمية ليست قدرًا محتومًا، بل اختبارٌ لقدرة الدول على تحويل الأزمات إلى فرص عبر تشريعات ذكية ومرنة تحفظ التوازن بين النمو والاستقرار والعدالة، وهي ثلاثية لا يمكن تحقيقها إلا تحت مظلة قانون راسخ ورؤية اقتصادية متبصّرة.
وأخيرًا، قانون تعزيز الحماية الاجتماعية المستدامة الذي يُحوّل برامج الدعم النقدي الحالية إلى منظومة قانونية دائمة تُدرج آليات تلقائية لتوسيع نطاق المساعدة عند ارتفاع الأسعار أو حدوث الأزمات، مستلهِمًا تجربة البرازيل في برنامج بولسا فاميليا الذي ربط الدعم بالعدالة والشفافية والاستدامة.
وبذلك، يصبح الطريق نحو تشريعات ذكية واقتصاد أكثر مرونة قائمًا على الانتقال من المعالجات المؤقتة إلى الإصلاح القانوني البنيوي الذي يجعل من الاستقرار هدفًا دائمًا لا استثناءً طارئًا.