الدكتور علي اشتيان المدادحه يكتب .. تلخيص التلخيص لتقييم تجربة الأردن الاقتصادية والاجتماعية من التخطيط الشمولي الى رؤيا التحديث


منذ بداية العقد السابع من القرن الماضي حتى أيامنا هذه مر الأردن بثلاثة مراحل وهي : مرحلة التخطيط الشمولي , ومرحلة برامج التصحيح الاقتصادي والاجتماعي , ومرحلة الرؤيا والتحديث الإقتصادي .

فقد مر الأردن بأوضاع وظروف اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية غير مريحة خلال السنوات القليلة التي سبقت 1971 ابتداء من احتلال الضفة الغربية 1967 الى أحداث أيلول عام 1970 وبدأت الأمور تميل الى الاستقرار مع بداية 1971 , حيث قام الأردن بأنشاء المجلس القومي للتخطيط والذي كُلّف بوضع خطط تنمية اقتصادية واجتماعية ألأولى الى ثلاثة سنوات 1973 – 1975 , والثانية 1976 – 1980 والثالثة 1981 – 1985 والرابعة 1986 – 1990 . الى خمس سنوات وكانت أهدافها الرئيسية : -

اعادة تحريك عجلة النمو الاقتصادي وفي كافة القطاعات الاقتصادية من خلال تحفيز وتنشيط الفعاليات الاقتصادية في القطاعين العام والخاص , وذلك الى زيادة فرص العمل , وتحقيق معدلات نمو في الناتج المحلي الاجمالي بالاسعار الثابته بمعدلات عالية سنويا , وزيادة حجم الاستثمارات وفي مختلف الآنشطة الاقتصادية من خلال ايجاد بيئة استثمارية جاذبة للاستثمارات المحلية و الدولية .

كانت الخطتين الأولى والثانية شمولية ويتم متابعتها من قبل المجلس القومي للتخطيط مع الوزارات والمؤسسات الرسمية المخطط مع الفعلي , لمعرفة أسباب الانحرافات سواء كانت ايجابية أو سلبية من أجل تعظيم الايجابيات والحد من السلبيات وطرق علاجها , وكانت شمولية لكافة القطاعات الانتاجية سلعية كانت أم خدمية .

فقد حقق الاقتصاد الوطني معدلات نمو فاقت توقعات الخطط في معظم القطاعات الاقتصادية , وقد تمثلت هذه الانجازات في تحقيق معدلات نمو عالية في الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي بما يزيد من معدل النمو المستهدف في الخطتين , وبناء قاعدة عريضه من البنى التحتية للعملية الانتاجية , وانشاء العديد من الصناعات التحويلية ومشاريع الري والزراعة , وكذلك تم توسيع وتطوير قاعدة الخدمات التعليمية والصحية والاسكان والثقافة المصرفية , بالاضافة الى ذلك , ونتيجة الى ارتفاع أسعار النفط العالمية وانعكاسها الاجابي على الاقتصاد الأردني نتيجة الطلب المتزايد على الأيدي العاملة الأردنية للعمل في دول الخليج العربي وما أدى ذلك الى ارتفاع وزيادة تحويلاتهم من القطع الآجنبي والتي كان لها أثار ايجابية على النمو وتنمية الاقتصاد الأردني .

وعلى الرغم من هذه الانجازات فأن الأردن لم يستطع توسيع القاعدة الانتاجية بما يسمح بتحقيق درجة أعلى من الاكتفاء الذاتي من احتياجاته من السلع والخدمات ونتيجة لذلك فقد اتجه قسم كبير من الانفاق العام والخاص نحو المستوردات من السلع الاستهلاكية والرأسمالية مما أسفر عن عجز مستمر في الموازنة العامة وعجز في الميزان التجاري لميزان المدفوعات .

في حين كانت الخطتين الخماسيتين الثالثة والرابعة 1980 – 1985 و 1986 - 1990 تأشيريتان وذلك لأعطاء الدور الرئيسي في العمليات الاستثمارية الى القطاع الخاص , وذلك لتطبيق مبدأ الاقتصاد الحر دعه يعمل دعه يسر . ويعود السبب في ذلك أن الدول الرأسماية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية زمن الرئيس ريغن وبريطانيا زمن رئيسة الوزراء البريطانيه تاتشر , شهدة ثورة كبيرة في مفهوم الادارة العامة , وسرعان ما انتشر فكر الادارة العامة الحديثة لبقية بلدان العالم المتقدمة وبعض الدول النامية , ومنها الاردن . لذا لم يعد وضع الخطط من مهام الحكومة المركزية بل أن كل مؤسسة تضع خططها الخاصة بها ضمن مفهوم الادارة الاستراتيجية , بما يتفق مع السياسات العامة التي تضعها الحكومة , أما التدخل في الحياة الاقتصادية فقد انتقل من مفهوم التخطيط المركزي الشمولي الى مفهوم أخر من خلال وضع الحكومة لبرامج تحفيز اقتصادي , أو برامج اصلاح اقتصادي أو برامج اصلاح اداري أو سياسي , أو أن تقوم الحكومة بوضع خارطة طريق طويلة الأجل ضمن رؤية واضحة ومحددة الى المستقبل .

ولكن الاقتصاد الأردني خلال السنوات الأخيرة من خطط التنمية الاقتصادية , أصبح يسير بالاتجاه المعاكس , حيث أخذ الاقتصاد الأردني يشهد حالة من الانكماش الاقتصادي مرتبطة مع مجموعة من التغيرات الاقتصادية المحلية من أهمها : ارتفاع ملحوظ ومتسارع في حجم المديونية للحكومة وخصوصا المديونية الخارجية , وارتفاع ملحوظ ومتواصل في معدل البطالة , وضعف واضح في معدل نمو الايرادات المحلية , وارتفاع في الانفاق الحكومي نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي . مما أدى ذلك الى انهيار في سعر صرف الدينار الأردني الرسمي من 2,8 دولارات لكل دينار أردني الى حوالي 41, 1 دولار للدينار الأردني الواحد , كل ذلك أدى الى انكماش شديد في معدل النمو الاقتصادي ليسجل نموا سالبا يقدر 7 ,10 % وارتفاع معدل التضخم الى 6 , 25 % عام 1989 .

حتى أصبح الآردن عاجزا عن الوفاء بالالتزامات المترتبة عليه ازاء المديونية الخارجية فلم يستطع تسديد عبء الدين من أقساط وفوائد الدين الخارجي المترتبة عليه بالتزامن مع نضوب احتياطات البنك المركزي من العملات الصعبة . وكانت النتيجة المنطقية والطبيعية هي انخفاض سعر صرف الدينار الأردني في أواخر عام 1988 وفي ظل ما وصل اليه الاقتصاد الأردني من اختلالات هيكلية كبيرة , وعسر مالي شديد , وعدم قدرة الحكومة على تحديد تثبيت سعر صرف الدينار الأردني , لجأ الأردن الى صندوق النقد الدولي وطلب منه التوقيع على اتفاقية الاستعداد الائتماني , وعلى أثر ذلك تم وضع برنامج التصحيح الاقتصادي والاجتماعي في الاردن من عام 1989 حتى أيامنا هذه .

وشهدت بداية التسعينات تطورات سياسية واقتصادية على المستوى الاقليمي والدولي أثرت على مسار الأردن الاقتصادي والاجتماعي , وكان أبرزها أحداث الخليج وما تلاها من حرب وعقوبات اقتصادية , والتحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها دول أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقا , وزيادة أهمية التجمعات الاقتصادية والاقليمية التي ركزت على مبدأ التعاون بين أعضائها .

فكان من نتائجها ايقاف العمل في برنامج التصحيح الاقتصادي , وبعد انتهاء الأزمة قدمت بعثة صندوق النقد الدولي الى الاردن في شهر أيار عام 1991 , وتم الاتفاق بشكل أولي مع الحكومة الاردنية على استئناف مسيرة التنمية الاقتصادية , ضمن اطار اقتصادي متوسط المدى خلال سبع سنوات تبدأ عام 1992 , لتحقيق التوازن الداخلي والخارجي .

كان من المفترض أن يتم التوازن الداخلي والخارجي نهاية البرنامج لعام 1998 , أي بين العرض الكلي والطلب الكلي الفعال بين السياسات المالية والنقدية والاقتصاد الكلي . الآ أنه لم يحصل ذلك وتم التمديد الى برامج التصحيح الاقتصادي والاجتماعي حتى أيامنا هذه , رغم أن الحكومة وضعت خطط اقتصادية في عام 1997 مرافقة مع برنامج التصحيح الاقتصادي وذلك لمعالجة القضايا الاقتصادية في الاقتصاد الكلي التي لم تكن من أولويات برامج التصحيح الاقتصادي والاجتماعي التى تبنتها الحكومة مع صندوق النقد الدولي . ومن بعد ذلك تبنت الحكومة رؤيا وخطط واستراتيجيات في محاور متعددة تجاوزت الاصلاحات في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية , الى الاصلاحات في الشؤون السياسية , والاصلاح الاداري , والقانوني والموارد البشرية والتعليم , والبيئة والتنمية المستدامة , والبنى التحتية والخدمات اللوجستية , والاستثمار والتمويل . والخدمات الصحية وغيرها كثير ابتدأً من الاجندة الوطنية عام 2005 , وكلنا الأردن عام 2006 , والخطة الاستراتيجية الوطنية في الأردن للسنوات 2015 – 2025 وأخيرا وليس بآخر رؤيا التحديث الاقتصادي في الاردن للسنوات 2022 – 2033 .

كل ذلك كانت نتائجه , زيادة حجم الدين الداخلي والخارجي وعدم قدرة الاقتصاد الوطني من تسديد عبء الدين من أقساط وفوائد الا من خلال الاقتراض الداخلي والخارجي وبالتالي ارتفاع حجم الدين بنسة عالية فاقت الناتج المحلي الاجمالي , وعجز متزايد في الموازنة العامة , و متزايد أيضاً في الحساب التجاري والحساب الجاري في ميزان المدفوعات , وتراحع معدلات النمو في الناتج المحلي الاجمالي الى مستويات منخفضة جدا , واذا ما تم طرح النمو السكاني السنوي منها تكون أقرب الى الثبات ان لم تكن سالبة , وارتفاع نسبة الفقر والبطالة وأدى ذلك الى سوء توزيع الدخل القومي , فقد ارتفعت نسبة طبقة الاغنياء في حين اتخفظت نسية الطبقة الوسطى والتي كانت تمثل الشريحة الواسعة من المجتمع و كانت المحور الاساسي في تحريك العمليات الاقتصادية والاجتماعية وزيادة متزايدة في نسبة طبقة الفقراء التي تعتمد اعتمادا مباشرا في معيشتها على المعونات , وبالتالي مساهمتها في العمليات الانتاجية محدودة جدا .

أرى أن سبب هذا الاخفاق في تحقيق أهداف الخطط والبرامج ورؤيا التحديث الاقتصادي , يعود الى أسباب خارجية وداخلية , الخارجية أسبابها ومسبباتها خارجة عن ارادة الدولة الأردنية وقد يكون دورها محدودا في الاخفاقات . ولكن الاسباب الداخلية لها الدور المحوري والرئيسي في اخفاق الخطط والبرامج ورؤيا التحديث من تحقيق إهدافها له عدة أسباب منها فرعية واخرى رئيسية , أرى أن المسبب لها سواء كانت فرعية أو رئيسية يعود الى مستوى الكفاءة الادارية الى الدولة الاردنية وبكافة مكونتها المجتمعية , أفراداً وجماعات مؤسسات حكومية وشبه حكومية قطاع خاص وعام كلها أدت الى فشل تحقيق أهداف خطط وبرامج ورؤيا التحديث .

وخلال النصف الثاني من عقد الثمانينات وعقد التسعينات من القرن العشرين تم انشاء هيئات تنظيم قطاعات مستقلة ادارياً ومالياً تتولى كل منها مهام تنظيم قطاع معين , لتعزيز التنافسية وتقديم الخدمات بجودة عالية للمجتمع بدلاً من الحكومة , وذلك العمل بتطبيق مفهوم الادارة العامة الحديثة للدولة .

ومع أن الحكومة قامت بأنشاء هيئات التنظيم القطاعية وأعطتها الإستقلال المالي والاداري , ولكنها لم تراقب هذه الهيئات التنظيمية وبنفس الوقت لم تراقب المؤسسات الحكومية المستقلة الأخرى , وأبقت الحبل على الغارب , كما أن الحكومة فشلت في وضع نظام حوكمة جيد يضبط أداء الهيئات والمؤسسات الحكومية المستقلة ويضمن تحقيق الأهداف المرجوة من انشائها , الأمر الذي أدى الى استغلال السلطة والتوسع في التعيينات والمبالغة في اعطاء الرواتب المرتفعة مما أدى الى تضخيم القطاع العام وزيادة الأعباء المالية على خزينة الدولة , بالاضافة الى ذلك كان الهدف الرئيسي من انشاء الهيئات المستقلة أن تحل محل الوزارات المشابهة لها ولكن بقيت الوزارات كما هي مما أدى الى التشابك وعدم الوضوح في أعمالها وبدلا من أن تحد من الاجراءات الروتينية والبيروقراطية وعدم وضوح الاجراءات الحكومية وتراجع الشفافية وصعوبة الحصول على المعلومات حول الاجراءات المطلوبة , كل ذلك أدى الى ظهور شكل جديد من الواسطة والمحسوبية , وهو الذي يعتبر أحد أشكال الفساد , وذلك عندما تكون غاية الواسطة أن تلغي حقاً أو أن تحقق باطلاً , أما النوع الثاني للواسطة والذي هو نتاج الادارة الحكومية المترددة والمترهلة والعاجزة عن اتخاذ القرارات الادارية , حيث يضطر المواطن العادي أو رجل الأعمال الى أن يلجأ للواسطة كي يتمكن من استكمال اجراءات معاملاته , أو حتى متابعتها والاستفسار عنها , أو الحصول على وقت تقديري للزمن الذي تستغرقه لكي يتم انجازها , أو الحصول على حقوقه التي ضمنها القانون .

فقد أصبحنا مؤخرا نسمع من رجال الأعمال هذه المقولة " دون واسطة يصعب أن تنجز معاملتك مع الحكومة " وهذا دليل على ضعف الشفافية .

وما هو متعارف عليه عند المختصين في الادارة العامة أنه كلما ضعفت الشفافية والمسائلة زاد الفساد .

وحيث أنه ينظُر للاصلاح الاداري بأنه رافعة الاصلاح الاقتصادي , وان الاصلاح الاداري يعتبر متطلبا ضروريا لتوفير بيئة خاصة وجاذبة للاستثمار ولتعجيل النمو الاقتصادي ولتحقيق التنمية المستدامة .

علينا أن نتخيل حجم الأثر السلبي على الاقتصاد الأردني الذي أحدثه ضعف مسيرة الاصلاح الاداري في البلاد . وعودة الحكومة لإسلوب الادارة التقليدية الذي يعتمد على المركزية والبيروقراطية في اتخاذ القرارات وما رافق ذلك من احباط للقيادات الادارية التنفيذية في القطاع العام وقد نجم عن ذلك مزيد من الترهل , والانفلات الاداري , والتردد في اتخاذ القرارات , وغياب الشفافية , وضعف المساءلة , وتزايد الاعتماد على الواسطة لانجاز المعاملات , وتوفير بيئة ملائمة للفساد .

ويبدو أن الحكومة لا يوجد لديها رؤية واضحة للاصلاح الاداري في القطاع العام بمفهومه الشمولي , وعوضاً عن ذلك فقد انشغلت بالتفاصيل وانجاز جزئيات هنا وجزئيات هناك .

وفي مجال الاصلاح الاداري نود التأكيد على أهمية بناء المؤسسات الشاملة من أجل تحقيق الازدهار الاقتصادي والتنمية المستدامة . وقد أوضح خبراء الادارة لماذا تفشل الأمم في تحقيق الازدهار ومحاربة الفقر اذا كانت المؤسسات لديها مؤسسات استحواذية , لذا فعلى الدول الراغبة في تحقيق الازدهار الاقتصادي أن تعمل على بناء المؤسسات الشاملة بدلا من المؤسسات الاستحواذية الموجودة فيها .

وفي الختام فان الادارة الحكومية قد شهدت تراجعا واضحا خلال فترة منتصف العقدين الأول والثاني من هذا القرن الواحد والعشرين وأن كل ما نسمعه عن الاصلاح الإداري لا يعدو أكثر من كونه شعارات ترددها الحكومة في المناسبات وعبر وسائل الاعلام وينطبق عليها القول المأثور تسمع جعجعة ولا نرى طحنا . اذن ماذا يحتاج واقعنا الى مواطنة صادقة حكاماً ومحكومين أفراداً ومؤسسات ويتحقق ذلك عن طريق ثورة على الذات من أجل أن ترقى وتنمو ثقافتنا وحضارتنا , فحامل الثقافة الانسان الفرد وحامل الحضارة المجتمع بمؤسساته المتعددة فهما مترابطان متلازمان مثلهما كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .