.. وحنينُه أبدًا لأول منزل!
لا شيء يعدل المنزل، حاضن الذكريات، ومفرّج الكربات، وصانع البهجة بين أحضان الأمهات والجدات المؤنسات، الحكّاءات في ليالي الصيف وزمهرير الشتاء، قبل أن ينام الأبناء تحت تأثير التمسيد على رؤوسهم، والإنصات لحكاية "إبريق الزيت"، التي لا يعرف المسكونون بسحر الحكايات متى تبدأ ولا متى تنتهي، بعد أن يُغالبهم الكرى، ويَغُطّون في نومٍ عميقٍ حتى مطلع الفجر.
استدعاء الحنين بات فرض عينٍ على الغزيين، المنهكين الجائعين المعذبين العائدين بفرحٍ مكتومٍ إلى أطلال البيوت، وركام الشقق في الأبراج التي سُوّيت بالأرض، حتى باتت غزة أرضًا يبابًا بلقعا، تفتقد لممكنات الحياة لمن ينامون على الطوى، وتتملّكهم مشاعر الألم والحزن بفقد أحبتهم الذين طُمرت أرواحهم تحت ركام منازلهم.
يعود المنكوبون إلى أطلال منازلهم رجالًا وعلى كل ضامر، يتصبّبون عرقًا تحت الهجير ووعثاء المسير، يلتمسون برد اليقين وطمأنينة الإيمان بفرجٍ قريب، يُبلسم قلوبهم، ويُهدئ روعهم، ويُطمئن نفوسهم، بعد عامين كاملين من العذاب في سعير الإبادة.
يومًا بعد يوم، يتكشف الكثير من أهوال الحرب، التي تركت ندوبًا في القلوب، ورسمت أخاديد على الوجوه، تشبه تلك التي حفرتها أسنان الجرافات والمفخخات في كل بيتٍ وحارةٍ وشارعٍ في القطاع المنكوب.
يعود الناجون من سعير الإبادة، ولسان حالهم يُردد مع أبي تمام: "كم من منزلٍ في الأرض يألفه الفتى، وحنينُه أبدًا لأول منزلِ".. حتى وإن بدا طللا.
يستحق الناجون العائدون إلى أنقاض منازلهم أن نسكب لهم من القلوب قُبَلَ الوجه، ومن الصدور قُبَلَ الشفاه، ومن الأكباد قُبَلَ الصبر على المأساة، ونذرف الدمع والورد على أرواح من رحلوا من أحبائهم.
.. الحمد لله على سلامتكم، عظّم الله الأجر، وجبر الكسر، وألهمكم الصبر.