ذئاب وخراف


   ابتلي العالم الطشّيّ( الثالث) بقيم الليبرالية الجديدة وممارساتها، بالتزامن مع عولمة الدول بشعوبها ومؤسساتها وأفرادها، مدعومة بما يمول هذا النهج من مؤسسات نقدية وعالمية استعمرت هذه الدول بالإقراض المشروط بإملاءات على هذه الحكومات، كانت نتيجتها كارثية على الشعوب؛ فما يعرف بالإصلاحات الاقتصادية المستند إلى هذا النهج هو الإفساد بعينه لا الإصلاح؛ فاتسع نطاق الفقر وتعددت جيوبه، وتدهورت أحوال الطبقة الوسطى حتى وصلت ما دون الحضيض. وبالمقابل، شاع الفساد بكافة أصنافه في الطبقة الطفيلية والتي يتربع على عرشها عرابو الخصخصة واللصلصة والسرسرة، فبيع الوطن بما فيه من شجر وحجر وثمر بحجة جلب الاستثمارات وإنعاش الاقتصاد. ودار الصراع غير المتكافئ بين مجتمع الذئاب هؤلاء، ومجتمع الخراف أولئك؛ فالمجتمع الأول هم طبقة المتنفذين والسماسرة، هم أصحاب التشريع والتنفيذ، هم من خلطوا ومزجوا المنصب الحكومي والوظيفة العامة بمال السحت والسرقة، هم من يرون جيب المواطن المخروم دواء شافيا لسد عجز الدولة ومديونيتها. وأما طبقة الخراف فهي الطبقة التي تضم تحت جناحيها الجندي الذي يحمل السلاح دفاعا عن ثرى هذا الوطن وأمنه واستقراره، والمعلم الذي حنا ظهره وتقوس وتحدب واحدودب وهو ينشئ الأجيال المتعلمة التي تربت على آي القرآن الكريم وسنة المصطفى. والطبيب والمهندس والعامل والموظف ووو وباقي شرائح المجتمع التي ديدنها بناء الأوطان لا هدمها. هذه الطبقة التي ترى الوطن دما يسري في العروق، وعِرضا مصونا، لا بقرة حلوبا ، ولا مالا سائبا داشرا، ولا قاصة مشرعة الأبواب للغرف والنهب.
إن القيم الليبرالية، وعلى لسان مارغريت تاتشر، تؤكد أن بلوغ المجد هو في سياق اللامساواة، والمنافسة. وعلى لسانها تقول: لا نعبأ بالمتخلفين في سباق ماراثون المنافسة( تقصد الطبقتين الفقيرة والوسطى) وبأن الدارونية الاجتماعية هي صراع بين مجتمعي الخراف والذئاب، وفق ما ترى؛ أي بين اللصوص والمواطنين البسطاء. هذا هو النهج الليبرالي التي ما تزال حكوماتنا منذ ثمانينيات القرن الماضي تسير على دربه، وما ازددنا فيه إلا تضخما في المديونية والعجز على مستوى الدولة، وفقرا وبطالة وعنفا اجتماعيا، وزيادة معدل الجريمة بكافة أشكالها وأماكنها؛ من البيت إلى المدرسة، فالجامعة...نهج اختطه الذئاب والضباع لابتلاع الخراف والضعاف من المواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة. هذا النهج الشيطاني الذي يستغبي المواطن وما هو بغبي. نهج يتباكى على الفقراء بعينه اليمنى، في حين ترمق عينه اليسرى جيوبهم وفتات مدخراتهم؛ مدخرات بقايا أمل متعثر، ورجاء خجول في غد أفضل.
إن ما تنوي الحكومة الحالية ارتكابه في تخفيف الدعم أو رفعه عن بعض السلع الاستهلاكية يعد استفزازا للمواطن بكل ما يعنيه الاستفزاز من معنى ودلالة، المواطن الذي كان وما يزال ينظر إليه باعتباره( الحيط الواطي) الذي عليه تحمل وزر سياسات وإجراءات اقتصادية فاشلة منذ الثمانينيات، في حين أن هناك بدائل أخرى عديدة ومتنوعة لمن ألقى السمع حتى لو كان به صمم؛ فالهدر في المال العام، وتفشي المؤسسات المستقلة التي تستنزف ما يزيد على 25% من ميزانية الدولة، والرواتب الفلكية لأصحاب النفوذ وأصحاب أصحاب النفوذ للمعالي والسعادة والباشا، والأموال المنهوبة من موارد الدولة ومقدراتها، والضرائب التي تفرض على فقراء القوم، ويعفى منها العلية وأصحاب الثروات الطائلة التي تراكمت في معظمها على غير وجه حق، كل هذا وغيره قد يشكل بدائل مناسبة لرفد الميزانية التي أصبتموها بالشلل.
قيل بأن المديونية وصلت إلى سقوف مرتفعة، ونقول بأن قامة المواطن من القصر ليست السبب في ذلك، ولا تستطيع الاستطالة ولا المطّ لتصل هذه السقوف والأسقف. وبما أن المواطن بريء من المديونية براءة الذئب من دم يوسف، فابحثوا عن الذئاب والحصينيات والضباع وأبناء آوى، وسلالات هذه الأصناف التي ما زالت في حمى الوطن ترتع وتلهو.
اتركوا المواطن وشأنه، اتركوا المواطن الذي (يعظ) على الصوان صابرا حتى لا يلحق بالبلد أذى لا قدّر الله تعالى. اتركوا جيب المواطن فلن تجدوا فيها ما يسدّ عجز الميزانية. اتركوا المواطن بحاله والتقطوا الذئاب فهم ليسوا بحاجة إلى بحث ولا تنقيب.