وقف العدوان على غزة… ماذا بعد؟
ها هو صوت المدافع يصمت أخيرًا — ولو مؤقتًا — في غزة، بعد عامين من الجحيم الإنساني والعسكري الذي حوّل القطاع إلى ركام وأحلام سكانه إلى رماد. عامان من الحرب التي لم تترك حجرًا على حجر، انتهيا بهدنةٍ هشّة تُشبه استراحة المحارب أكثر مما تُشبه السلام.
توقّف إطلاق النار، لكن الأسئلة الكبرى ما زالت تُطلّ من تحت الأنقاض: ماذا بعد؟ هل انتهت الحرب فعلًا أم أننا أمام فصل جديد من الصراع ذاته .؟
الاتفاق الأخير بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى جاء بدافع الضرورة الإنسانية لا الرغبة السياسية.
فالواقع في غزة تجاوز حدود الاحتمال: مدن مدمّرة، مستشفيات متهالكة، مئات آلاف النازحين، ومأساة إنسانية تهزّ الضمير العالمي.
لكن، رغم حجم الفاجعة، لم تنكسر إرادة الفلسطيني الذي تمسّك بحقه في الحياة والكرامة، وأثبت أن غزة لا تُهزم بالحصار ولا تُمحى بالقصف.
في المقابل، تواجه إسرائيل مأزقًا داخليًا حادًا.
فبعد عامين من الحرب، لم تحقق حكومتها "الانتصار الحاسم” الذي وعدت به، ولم تُنهِ ملف الأسرى، فيما يتزايد الغضب الشعبي والمعارضة الداخلية.
اليمين المتشدد يرى في أي هدنة تنازلًا، بينما يدرك آخرون أن استمرار الحرب يعني نزيفًا سياسيًا واستراتيجيًا لا يمكن احتماله.
وهكذا، وجد الإحتلال نفسه في معادلة صعبة: وقف القتال ضرورة، لكن الاعتراف بالفشل مستحيل.
السؤال الأهم اليوم: من سيحكم غزة بعد الحرب؟
السلطة الفلسطينية تتحدث عن العودة، وحماس ترى نفسها باقية كقوة أمر واقع، فيما تُطرح أفكار عن إدارة انتقالية بإشراف دولي أو عربي.
لكن الحقيقة أن لا أحد يملك خطة واضحة، وأن القطاع يسير نحو فراغ سياسي وأمني، قد يفتح الباب لجولة جديدة من الفوضى.
أما الإعمار، فبين الوعود والواقع مسافة شاسعة.
العواصم العربية تعلن استعدادها للمساعدة، لكن الاحتلال ما زال يتحكم بالمعابر والموافقات.
ومن دون رفع كامل للحصار وضمان حرية الحركة، سيبقى الإعمار رهينة الابتزاز الإسرائيلي.
رغم مشاهد الدمار التي هزّت الضمير الإنساني، ظل ردّ المجتمع الدولي في حدود "القلق العميق” و”الدعوة إلى ضبط النفس”..
الفيتو الأمريكي عطّل قرارات مجلس الأمن، فيما اكتفت العواصم الأوروبية بالتفرّج على المأساة.
في المقابل، لعبت الأردن ومصر وقطر دورًا رئيسيًا في الوساطة وفتح الممرات الإنسانية، لكن الجهد العربي يبقى بحاجة إلى رؤية موحدة تتجاوز الإغاثة إلى معالجة جذور الأزمة: الاحتلال والحصار.
وقف العدوان على غزة ليس نهاية الحرب، بل بداية اختبار جديد للإرادات.
اختبار لمدى التزام العالم بالقانون الإنساني، واختبار لقدرة الفلسطينيين على تحويل الصمود الميداني إلى مكسب سياسي.
لكن من دون حل جذري يضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة ورفع الحصار، سيبقى السلام هدنة مؤقتة تتجدد بعدها النيران.
غزة اليوم لا تبحث عن هدنة جديدة، بل عن حياة تليق بالبشر.
تريد وعدًا صادقًا بأن هذه المرة لن تكون مثل كل المرات السابقة، وأن دماء أطفالها لن تُمحى بصمتٍ دولي جديد.
فبعد عامين من الحرب، أثبتت غزة أنها لا تموت — بل تُعيد تعريف الصمود كل مرة، وتذكّر العالم بأن العدالة ليست خيارًا، بل الطريق الوحيد إلى سلامٍ حقيقي.