كيف شكلت القنوات التلفزيونية الوعي العربي؟!



لا يمكن الاستخفاف بتأثير الإعلام في تشكيل الوعي الجمعي. منذ بروزها كمجموعة إعلامية ضخمة، لعبت قنوات "أم بي سي” دورًا يفوق الترفيه: تحوّلت إلى أداة تدجين ناعمة، تُعيد تشكيل الذائقة، وتعيد برمجة القيم تدريجيًا.

ما بدأ كترفيهٍ بريء، سرعان ما تحول إلى مشروع ثقافي يمسّ كل بيت عربي. ومع مرور الوقت، بتنا نرى النتائج: اختلافات جذرية في السلوك، اللغة، العلاقات، والهوية.

لفهم الظاهرة لا بد من الإشارة إلى أداتين أساسيتين:
نظرية الاستزراع (Cultivation Theory) التي عرّفها جورج غربنر، وتفترض أن التعرض المتكرر لأنماط معينة في الإعلام يخلق لدى المتلقّي رؤية متواصلة للواقع شبيهة بما يُعرض على الشاشة (مثال: من يشاهد بإفراط مسلسلات تحفل بالعنف سيطوّر تصورًا أن العالم أكثر عنفًا).

ونظرية التعلّم الاجتماعي لألبرت باندورا، التي تشرح كيف يَقلد الأفراد سلوكيات محايدة أو سلبية يشاهدونها مرارًا في وسائط الإعلام، خصوصًا إذا بدت مُكافأة أو مقبولة اجتماعيًا داخل السرد الدرامي.

هاتان الإطارتان ليستا افتراضًا فرديًا؛ بل تُستخدمان في أبحاث الإعلام لتفسير كيف يُشكّل العرض المتكرر المواقف والمعايير الاجتماعية، من الرعب إلى العاطفة إلى تقليد أنماط الحياة.
إذا واجهنا مسارًا منطقيًا يمكن اختصاره كما يلي:

1- التطبيع مع الدم: حين يصبح العنف مألوفًا
مع إطلاق قناة "MBC Action”، تم الترويج لبرمجة أسبوعية قائمة على أفلام الأكشن والرعب، بل خصصت القناة ليالي "أفلام الرعب” وكأنها طقس أسبوعي. في هذه الأفلام، تُعرض الجثث والدماء والقتل الوحشي وكأنها وجبة ترفيهية خفيفة. ومع التكرار، اعتاد المشاهد العربي – خاصة الشباب – هذه الصور، حتى بات يستهلكها بلا ردّ فعل.

نظرية "الاستزراع الإعلامي” تؤكد أن التعرض المستمر لهذه المشاهد يصنع تصورًا غير واقعي عن الحياة، ويجعل العنف مقبولًا، أو على الأقل مألوفًا. وهنا الخطورة: أن تصبح الجريمة مشهدًا اعتياديًا لا يُستنكر، وهذا ما بدا واضحا لنا في ردود فعل المشاهد العربي على الجرائم التي ارتكبها الاحتلال في حرب غزة وتعامل معها العربي كما يتعامل مع مشاهد فلم.

2- التدفق العاطفي والمسلسلات الأجنبية _ الدراما التركية كمثال بارز: بوابة الانهيار العاطفي والأخلاقي
بذكاء مبرمج، اجتاحت المسلسلات التركية شاشات "MBC” مترجمة بلغة محببة وسيناريوهات مدروسة. هذه المسلسلات، مثل "نور”، "العشق الممنوع”، "فاطمة”، وغيرها، لم تكن فقط قصص حب، بل حملت في طياتها:

الترويج للعلاقات المحرّمة: العشيق، الخيانة الزوجية، كسر التقاليد.

تبرير الخيانة بحجج عاطفية ملفّقة، وكأن الألم يمنح الحق في خرق القيم.

تصوير العائلة كمصدر للاضطهاد: كره الأب، تمرد على الأم، سخرية من الأدوار التقليدية.

ليس ذلك فحسب، بل ارتبطت اللغة التركية بالحبّ والرغبة، وأصبحت مصطلحات مثل "عشق”، "كلمات رومانسية تركية”، تُتداول بين الشباب، حتى وهم لا يعرفون معناها.

لقد خُلقت حالة إدمان: الجمهور لم يتابع فقط، بل تأثر وتغيّر، هذا ليس مجرد تأثير سطحي: سلسلة حلقات طويلة تبني علاقة يومية مؤسسّة بين الجمهور والشخصيات والأماكن.

3- تقليد أنماط الحياة المادية والمرئيّة: من الترف إلى التفاخر: المنازل، الأزياء، والسباق الاجتماعي
تصوير بيوت فاخرة، ماركات ملابس، أنماط استهلاكية عالية الجودة يعمل كدعاية ضمنية لنمط حياة معين. النتيجة: تنافس اجتماعي على مظاهر الثراء والموضة بدل الاستثمار في عمل طويل الأمد أو قيمة اجتماعية أخرى؛ يصبح معيار النجاح مرآة ما يُعرض في المسلسل.

الرسالة الضمنية: هذا هو الطبيعي، وهذا ما ينبغي أن تسعى إليه، لم تعد الوظيفة أو الأخلاق مهمة… بل نوع الكنبة، والستائر، وإضاءة المطبخ.

4-المدخل الرابع — تطبيع الجريمة والعصابات: البقاء للأقوى
عندما تُعرض العصابات والجرائم كجزء من الحبكة وتُعطى لها عناصر تبرير أو بريق درامي، يتحول الموضوع من "حادث شاذ” إلى وسيلة ممكنة للنجاة أو الارتقاء. فدخلنا مرحلة جديدة حين بدأ عرض المسلسلات التي تمجّد العصابات والسلاح. مثل مسلسل "الهيبة” – الذي عُرض أيضًا على شاشة "MBC” – حيث يتحول القاتل إلى بطل، وتُقدَّم تجارة السلاح كمجرد "خلاف عشائري”.
في هذه الأعمال: القتل له مبرر، والبلطجة دليل على الرجولة، والهيمنة تُصور كحق طبيعي لمن يملك القوة.

هذا النوع من السرديات يُعيد تشكيل أخلاقيات الشباب، خاصة في البيئات الهشة، ويجعل من السلاح رمزًا للفخر، لا جريمة
5- التكامل النهائي ، الاستنساخ الكامل: لسان تركي، روح مستوردة، ومجتمع بلا أصل

عبر تراكم كل ما سبق، لا يعود التأثير مقتصرًا على فكرة أو كلمة؛ بل يتعمق ليشمل اللغة (مصطلحات ومزاج الحوار) والذوق العام ونمط العلاقات والأدوار الاجتماعية داخل الأسرة والمجتمع. الناتج: تغيير تدريجي في المعايير الاجتماعية وطرح أسئلة حول تفكك القيم التقليدية. نعيش صراعاتهم لا صراعاتنا، نحلّ مشكلاتنا بطريقتهم لا بثقافتنا، وهكذا، لم نعد "نُشاهد” الدراما، بل نُعاد تشكيلنا من خلالها.وخرجنا من الشاشة حاملين لسانًا غريبًا، ذوقًا مشوهًا، ومفاهيم جديدة للحب، للنجاح، وللعائلة… مفاهيم لا تمت لمجتمعنا بصلة.

هل هي "مؤامرة مخطّطة” أم نتاج سوقي؟
من المهمّ التمييز بين مستويين في تحليل الظاهرة الإعلامية:
فمن جهة، تتخذ القنوات الكبرى قراراتها البرمجية وفق منطق السوق – حيث تتحكم فيها اعتبارات الربح، نسب المشاهدة، والإعلانات – لا وفق معايير تربوية أو ثقافية بالضرورة. لذلك فهي تقدّم ما يجذب الجمهور ويبقيه متصلًا بالشاشة، حتى لو كان على حساب القيم والمعايير.

ومن جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن هذا المنطق التجاري ذاته يُنتج بمرور الوقت أثرًا ثقافيًا وسياسيًا عميقًا. فحين تتكرر أنماط معينة من المحتوى – في العلاقات، والقيم، وصور النجاح والبطولة – يصبح الناتج أقرب إلى عملية "تطبيع ثقافي ناعم”، حتى دون أن يكون هناك تخطيط مؤامراتي صريح. ومع ذلك، يمكن لجهات ذات أهداف سياسية أو أيديولوجية أن توظف هذا الإنتاج الإعلامي لخدمة سردياتها ومصالحها.

تشير دراسات إعلامية عديدة إلى أن التعرّض المستمر لأنماط معينة من الرسائل البصرية يبدّل القيم والسلوك (وفق نظرية الاستزراع)، كما تُظهر الملاحظات الثقافية تغيرًا ملموسًا في لغة الشباب، وأذواقهم الاستهلاكية، وطرق تعبيرهم عن الذات بعد انتشار مسلسلات وأنماط فنية أجنبية. إن منطق السوق الذي يدفع نحو الإثارة والدراما، بدلًا من التوعية والتربية، يصنع تدريجيًا وعيًا جديدًا أقل مقاومة وأكثر تقبّلًا لما كان مرفوضًا سابقًا.

وهنا يصبح السؤال أعمق: حين يتحول فقدان الذاكرة الجماعية إلى نتيجة طبيعية لهذا المنطق، ألا نصبح أمام سياسة ثقافية ناعمة أكثر من كونها مجرد تجارة؟

ما بدأ كمسلسلات ترفيهية وأفلام عابرة لم يكن عبثًا بريئًا؛ بل أسهم، بوعي أو من دونه، في تدجين المجتمع العربي على تقبّل قيم دخيلة، وإعادة تشكيل مفاهيم الحب، والأسرة، والنجاح، واستبدال الرموز الوطنية بقدوات فارغة. ومع تغييب الحديث عن القضايا الكبرى – وفي مقدمتها فلسطين – لصالح عوالم الرفاه والسطحية، تتكرس هندسة ثقافية ممنهجة للانسلاخ عن الهوية والذاكرة.

وهكذا، لا يكون التطبيع الإعلامي والسياسي حدثًا مفاجئًا، بل حصيلة عقود من التطبيع الثقافي الذي بدأ على الشاشة. فحين تتعلم الشعوب أن البطل هو من يخون ويكذب ويقتل، يصبح خيانة القيم والقضايا الكبرى أمرًا عاديًا. ومتى تم تدجين الوعي، لا حاجة للجيوش ولا للاحتلال؛ يكفي أن تقبل الشعوب ما كانت ترفضه بصمت.