حرب الأقدام.. "المسارات" صراع جديد على الأرض والهوية
في قلب الأراضي الفلسطينية، وتحديدًا في منطقة تجمع قرى عارورة شمال شرق رام الله، تشهد الأرض فصلًا جديدًا من فصول الصراع، ليس بالرصاص أو الصواريخ، بل بخطوات الأقدام، حيث تحولت فكرة تنظيم المسارات الطبيعية، التي تُعرف عالميًا كنشاط سياحي بيئي، تنظمها فرق ومجموعات شبابية فلسطينية كـ(عشاق الأرض، امشي وتعرّف ع بلدك، مشوار، سرحة، والعديد من فرق ومجموعات المشي بالطبيعة) إلى ساحة للمواجهة بين الشباب الفلسطيني من جهة، والمستوطنين الإسرائيليين من جهة أخرى، في صراع وجودي على الحق في الأرض والحركة والتاريخ.
للمرة الأُولى، قامت مجموعة من المستوطنين اليهود يقودها المتطرف (أليشع برد) بتنظيم مسارات سير طويلة بشكل منظم لما يسمى "فتيان التلال" عبر أراضي مجمع قرى عارورة مرورًا بقرى (فرخة وقراوة بني زيد ومزارع النوباني ودير السودان وعجول...) وهي مناطق منطقة (أ).
المسارات الاستيطانية التي تمر في عمق الأراضي الزراعية والتلال التي تُمثل شريان الحياة للقرى الفلسطينية هناك، لم تُنفذ بمعزل عن السياق السياسي، بل نظر إليها الفلسطينيون على أنها محاولة لتطبيع الوجود الاستييطاني
وفرض سردية جديدة تُظهر المنطقة كأرض بكر يمكن الاستيلاء عليها تحت غطاء النشاط.
في مواجهة هذا التحدي الجديد، قامت مجموعات شبابية فلسطينية بتنظيم مسارات دائمة، بهدف التصدي للمسارات الاستيطانية، وتأكيد الحق الفلسطيني في هذه الأرض، ومنع أي محاولة لطمس هويتها أو عرقلة وصول المزارعين الفلسطينيين إلى أراضيهم. يقوم الشباب بتنظيم جولات مشي جماعية في المناطق نفسها، كنوع من التحدي السلمي وإعادة تأكيد الحقوق في المشي في كل ارض قلسطين.
هذه المواجهة ليست مجرد نزاع على مسارات للمشي، بل هي تجسيد لصراع أعمق:
الصراع على الجغرافيا: كل خطوة على هذه الأرض هي محاولة لترسيم الرواية والوجود. المسارات الاستيطانية تهدف إلى خلق واقع جديد على الأرض، بينما تهدف المسارات الفلسطينية إلى الحفاظ على الواقعَين التاريخي والجغرافي الحالي.
الجانب الاقتصادي: تعتمد العديد من الأسر في هذه القرى على الزراعة والرعي، وقد يتسبب مرور مجموعات كبيرة من المستوطنين عبر أراضيهم في أضرار للمحاصيل أو عرقلة للوصول إليها، ما يهدد مصدر رزقهم.
البعد الأمني: غالبًا ما تتم حماية مسارات المستوطنين من قبل الجيش الإسرائيلي، ما قد يؤدي إلى مواجهات واحتكاكات مباشرة مع الشباب الفلسطيني أو المزارعين، ويتصاعد الأمر إلى اعتقالات أو إطلاق للرصاص أو الغاز السام.
الحرب السردية: في أرض لا يوجد لهم فيها حق، يقدم المستوطنون نشاطهم على أنه "سياحة بيئية بريئة"، بينما يؤكد الفلسطينيون أنه استعمار واستيلاء على الأرض مغلف بنشاط ترفيهي.
وفقًا للقانون الدولي، تعتبر قرارات الأمم المتحدة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، غير قانونية وتشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. فإن أي نشاط ينطلق من هذه المستوطنات ويتم تنفيذه على أراضٍ فلسطينية محتلة يعد غير قانوني ويعيق إمكانية تحقيق حل الدولتين.
صراع المسارات هو مرآة تعكس طبيعة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الأوسع: معركة إرادات، حيث تتحول كل ذرة تراب إلى ساحة معركة. إنها حرب وجود تُستخدم فيها أدوات غير تقليدية، من الأحذية وأعلام الحقائب إلى الإرادة الصلبة، في حين يُصر الشباب الفلسطيني على أن أرضهم ليست مجرد مسار للمشي، بل هي تاريخ وهوية وكرامة، تبقى هذه المواجهة السلمية شاهدًا آخر على سلمية المقاومة وتعدد أشكالها في مواجهة آلة الاستعمار الاستيطاني المتطرف.