عطر المومياوات.. عبير أبدي يفوح بأسرار الفراعنة القدماء

هل شممت يوماً الروائح التي كان يستخدمها الفراعنة القدماء، رغم آلاف السنين التي مرت مازال شذاها يفوح عطراً من المومياوات حتى الآن، وقد تكون في قابل الأيام مثل هذه العطور متاحة في الأسواق.
نُشرت الدراسة في مجلة الجمعية الكيميائية الأمريكية ، تشير إلى أن روائح المومياوات قد تكشف عن أدلة حول الطبقة الاجتماعية، وطقوس الجنائز، وتطور ممارسات التحنيط.
للتعمق في بصمات الرائحة، تعاون علماء من سلوفينيا وإنجلترا وبولندا ومصر مع المتحف المصري بالقاهرة، وجمعوا عينات هواء من حوالي تسع مومياوات، حرص الفريق على تجنب أي اتصال جسدي مع البقايا الهشة، وذلك بوضع أنابيب صغيرة حول كل جثة لسحب جزيئات الغاز المنبعثة، ثم حُللت هذه العينات باستخدام كروماتوغرافيا الغاز ومطياف الكتلة، مما أدى إلى تحديد أكثر من 70 مركباً متطايراً مختلفاً.
قام الباحثون بتدريب مجموعة من الأشخاص على اكتشاف الروائح ووصفها باستخدام صفات حسية، ساعدت هذه الأنوف المُدرَّبة على تأكيد البيانات الكيميائية، وعكست أوصاف روائح المومياوات ما قد يسمعه المرء في متجر العطور: حلوة، خشبية، حارة.
قال عبد الرازق النجار، المؤلف المشارك في الدراسة والباحث في جامعة ليوبليانا، اختيرت كل مومياء لتمثل مجموعة متنوعة من الروائح والسياقات التاريخية، وكان هدفهم فهم كيف يمكن للرائحة أن تكون أداة غير جراحية لدراسة التراث الثقافي، مع إشراك العلماء والمرممين المصريين المحليين في هذه العملية.

رائحة تحكي قصة أكبر
إن الموضوع ليس مجرد رائحة فقط، فنوع وكثافة كل رائحة بدا وكأنهما يعكسان مدى أهمية الشخص في الحياة، ووفقاً للباحثين، كان المصريون الأثرياء - كالملوك والنبلاء - يُحنَّطون باستخدام أملاح طازجة وأعشاب باهظة الثمن وراتنجات نادرة، هذا يعني أن أجسادهم المحفوظة أصبحت تفوح منها رائحة أغنى وأكثر تعقيداً.
أما الأشخاص الفقراء فكانوا يحنطون بمواد مُعاد تدويرها - مواد استُخدمت سابقاً في تحنيط جثث أخرى، وهذا يُؤدي إلى روائح أبسط، وأحياناً إلى صعوبة في الحفظ بشكل عام.
إحدى المومياوات التي شملتها الدراسة - مدفونة في نعش بقناع مذهّب - كانت الأكثر تنوعاً في الرائحة، ورغم أنها كانت من أقدم المومياوات، إلا أنها احتوت على مركبات عطرية أكثر من غيرها.
تطور التحنيط... في شكل عطر
بدأت ممارسة التحنيط الاصطناعي في عام 2700 قبل الميلاد، على الرغم من أن التحنيط الطبيعي يعود تاريخه إلى ما يقرب من 5000 قبل الميلاد. وخلال فترة المملكة الحديثة، التي بدأت حوالي عام 1500 قبل الميلاد، أصبحت عملية التحنيط أكثر تطوراً وطقوساً.
تمت معالجة أجساد تلك الفترة بمزيج معقد من الزيوت والراتنجات وعوامل التجفيف، والتي من المرجح أنها مسؤولة عن الروائح الحلوة والخشبية التي لا تزال قابلة للاكتشاف حتى يومنا هذا.

إعادة التواصل مع التراث من خلال الرائحة
من الجوانب الأكثر إثارةً للاهتمام في هذا البحث مدى ارتباط الرائحة بالذاكرة والعاطفة، حيث تُعالجها مناطق في الدماغ مثل اللوزة الدماغية والحُصين وهذا أحد أسباب إشراك الباحثين لمرممين مصريين محليين في التحليل، يتفاعل هؤلاء المتخصصون مع القطع الأثرية بانتظام، وكانوا مؤهلين بشكل فريد للتمييز بين روائح المومياوات وتلك الناتجة عن جهود الترميم في المتاحف.
تشير باربرا هوبر، عالمة الكيمياء الأثرية في معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان الجيولوجي (والتي لم تشارك في الدراسة)، يمكن للمتاحف أن تُقدم "تجربة عطرية رائعة"، خاصةً فيما يتعلق بالتحنيط، فمعظم القطع الأثرية تُحفظ خلف الزجاج، مما يقطع الصلة الحسية بالماضي، لكن النهج الجديد في طريقة العرض بعيداً عن الزجاج قد يفتح آفاقًا لمستقبل لا يرى فيه زوار المتاحف التاريخ فحسب، بل يشمّونه أيضاً.
قد تذهب الفكرة إلى أبعد من ذلك، مع أنها لم تُعلن رسميًا بعد، إلا أن فريق البحث ألمح إلى أن مفهوم "عطر المومياء" قد لا يكون مستبعداً تماماً، يتخيل النجار أن يتمكن رواد المتاحف يوماً ما من تجربة هذه الروائح التاريخية في المعارض، وربما حتى أخذها معهم إلى منازلهم، وكما توضح الدراسة: "يتمنى الجميع أن يشموا رائحة قدماء المصريين : حلوة، خشبية، وحارة".