الأردن وحده يكسر الصمت.. وغزة وحدها بين عجز القانون وتواطؤ السياسة

غزة اليوم تقف على حافة الهاوية الإنسانية؛ إذ أكدت التقارير الأممية دخول المدينة في مرحلة المجاعة، حيث يواجه مئات الآلاف من سكانها حرمانا حادا من الغذاء والدواء، مع توقعات بتفاقم الأعداد في الأسابيع المقبلة. هذا الإعلان لا يمثل مجرد توصيف لواقع صحي متدهور، بل شهادة موثقة على فشل المجتمع الدولي في حماية أبسط حقوق الإنسان. فالمأساة التي تعصف بالقطاع ليست نتاج ظرف طارئ أو أزمة عابرة، بل نتيجة مباشرة لسياسات الحصار الممنهج والقصف المستمر، التي حولت الحياة اليومية لأكثر من مليوني إنسان إلى صراع مرير من أجل البقاء.

في ظل هذا المشهد المأساوي، تتكشف هشاشة المنظومة القانونية الدولية؛ فمحكمة العدل الدولية، رغم ما أصدرته من أوامر وإجراءات مؤقتة لحماية المدنيين، عجزت عن فرض تنفيذها على أرض الواقع، لتبقى العدالة رهينة الورق. هذا العجز البنيوي فتح المجال أمام تواطؤ السياسة، حيث يكتفي المجتمع الدولي ببيانات الإدانة والقلق، في الوقت الذي تُرتكب فيه الانتهاكات الجسيمة بلا رادع، مما يحوّل الصمت الدولي إلى صورة من صور المشاركة غير المباشرة في الجريمة.
ويُظهر هذا الفشل الدولي في حماية المدنيين أن الصراع لم يعد مجرد قضية قانونية أو سياسية، بل امتداد لمعركة أعمق حول القيم والهوية الحضارية فالصراع بين الإسلام والغرب ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد تاريخي لصدامٍ حضاري يتجدد كلما واجهت الأمة الإسلامية اختبارًا مصيريًا. ما يخشاه الغرب اليوم لا يقتصر على قدرة غزة على الصمود أمام آلة الحرب، بل يتجاوز ذلك إلى ما يحمله هذا الصمود من دلالات رمزية وحضارية. فغزة في وعي الغرب تمثل بوابة لاحتمال بروز فكرة الأمة العربية والإسلام كخيار حضاري بديل قادر على ملء الفراغ إذا ما تزعزعت ركائز النظام الدولي الذي شكّله الغرب عبر قرون. وبرغم هشاشة الواقع السياسي للعالم العربي بشكل خاص والإسلامي بشكل عام، إلا أن قوة الروح الإيمانية المتجددة فيه تكشف عن طاقة كامنة قادرة على إحياء مشروع حضاري جامع يتحدى منطق القوة المادية والعسكرية وحدها.
في المقابل، تكشفت ملامح أزمة عميقة في صورة الغرب كمدافع عن الحرية وحقوق الإنسان. فالأحداث الجارية في غزة أسقطت الأقنعة التي طالما غطت ازدواجية المعايير، وفضحت التناقض بين خطاب يُنادي بالعدالة، وممارسة تبرر القصف والحصار والتجويع. هذا الانكشاف لم يقتصر على الجانب السياسي، بل امتد ليكشف عجز المنظومة القانونية الدولية، التي بدت عاجزة عن إنفاذ قرارات محكمة العدل الدولية أو حماية أبسط الحقوق الإنسانية.
وزاد من عمق هذه الأزمة الموقف الإسرائيلي المتشدد، حيث أصر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على سياسة الإبادة والتجويع كخيار عسكري وسياسي، ما جعل الغرب في موقع المتواطئ أكثر من كونه شريكًا في الحل. هذا التواطؤ لم يجرّد الغرب فقط من صورته كحارس للقيم الكونية، بل دفع به إلى مأزق أخلاقي غير مسبوق، إذ بات يُنظر إليه كمنظومة متآكلة من الداخل، تتخلى عن المبادئ حينما تُختبر أمام مصالحها السياسية.
وفي خطوة غير مسبوقة، فقد أعلنت الأمم المتحدة رسميًا في 22 أغسطس 2025 عن تفشي المجاعة في قطاع غزة، وهي المرة الأولى التي تُعلن فيها المجاعة في منطقة الشرق الأوسط. التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أظهر أن أكثر من نصف مليون شخص في غزة يواجهون المرحلة الخامسة من نقص الغذاء، وهي المرحلة الأكثر خطورة، مع تضاعف عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص الغذاء ثلاث مرات منذ بداية الأزمة.
الواقع على الأرض يعكس هذه الأرقام المقلقة؛ إذ تُظهر الصور والمشاهد اليومية أطفالا هزيلين، ونساءً حوامل في حالة صحية حرجة، وكبار سن يواجهون الموت البطيء بسبب الجوع وسوء التغذية. تقارير منظمة اليونيسف تشير إلى أن المجاعة باتت واقعا رهيبا للأطفال في محافظة غزة، وتمثل تهديدا وشيكا في دير البلح وخان يونس.
ورغم الإعلانات الدولية عن إرسال المساعدات، يظل إدخالها إلى القطاع محدودا ومقيدا بفعل القيود التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على المعابر. وما يُسمح بإدخاله من مواد إغاثية غالبًا لا يكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية للسكان، بل تُوزع في نقاط محددة تُعرض المدنيين لمخاطر جسيمة، حيث تتحوّل مواقع توزيع المساعدات أحيانًا إلى مصائد، تزيد من احتمالات استهداف المدنيين وتعميق مأساة الجوع والموت البطيء. هذه السياسة لا تمنع فقط وصول الغذاء والدواء، بل تُحوّل المساعدات إلى أداة ضغط وانتهاك مباشر للحقوق الإنسانية، ما يجعل السكان أكثر عرضة للخطر ويضاعف معاناتهم اليومية.
وفي ظل هذه المأساة المتصاعدة وغياب أي آلية دولية فعّالة لضمان وصول المساعدات بأمان، يبرز الأردن كقوة فاعلة تتحرك على الأرض وعلى مستوى السياسة والدبلوماسية. المملكة لا تكتفي برصد المعاناة أو إصدار بيانات إدانة، بل تتدخل عمليًا لتخفيف وطأة الأزمة الإنسانية، مؤكدة أن الدور الوطني يمكن أن يشكل فارقًا حقيقيًا عندما تتعثر المؤسسات الدولية في أداء واجباتها الأساسية.
يعاني الأردن من وضع جيوسياسي لا يحسد عليه، تتداخل فيه التحديات الأمنية مع أعباء اقتصادية واجتماعية ضخمة، في وقت تتصاعد فيه الأزمات الإقليمية المحيطة بالبلاد. فالمملكة تصارع وحيدة لضمان استقرار حدودها وحماية أمنها الوطني، بينما تواجه ضغوطات سياسية ودبلوماسية كثيفة من أجل حماية المدنيين في غزة ودعم جهود السلام. وفي هذا السياق، يبرز الدور الأردني كفاعل رئيسي، متحركًا عبر أبعاد سياسية وإنسانية ودبلوماسية متكاملة، ليؤكد أن المملكة لا تكتفي بالمراقبة أو البيانات، بل تتخذ خطوات عملية للتخفيف من مأساة القطاع المحاصر.
على الصعيد السياسي والدبلوماسي، دانت المملكة الأردنية التصريحات الصادرة عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والتي أعلن فيها تعلقه بما يُسمى "رؤية إسرائيل الكبرى"، معتبرةً إياها تهديدًا خطيرًا لسلامة الدول وانتهاكا صريحا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. وأكد الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية وشؤون المغتربين، سفيان القضاة، رفض المملكة المطلق لهذه التصريحات التحريضية، مشددًا على أن هذه الأوهام العبثية التي تعكسها تصريحات المسؤولين الإسرائيليين لن تنال من الأردن والدول العربية، ولن تنتقص من الحقوق المشروعة وغير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني. وقد نقل الأردن اعتراضه رسميًا أمام الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، داعيًا المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية في حماية المدنيين ومنع أي تهديدات توسعية قد تؤثر على استقرار المنطقة.
وعلى الصعيد الإنساني، لم يقتصر دور الأردن على إرسال قوافل المساعدات التقليدية، بل امتد إلى تنظيم إنزال جوي عاجل للمواد الغذائية والدوائية والمستلزمات الطبية الطارئة لضمان وصولها سريعًا إلى المناطق الأكثر تضررًا في غزة. كما استقبلت المملكة الأطفال المصابين في المستشفيات الأردنية لتلقي العلاج، بما في ذلك الأطفال المصابين بأمراض مزمنة وخطيرة مثل السرطان، في خطوة تعكس الالتزام الأخلاقي والإنساني الثابت للأردن تجاه الضحايا الأبرياء، وتؤكد حرص المملكة على تقديم الدعم الفوري لحماية الحياة والحد من مأساة المدنيين.
وفي بعد آخر، أسهم الأردن بفعالية في مسارات التفاوض والوساطة، مشاركًا في محادثات تهدف إلى وقف إطلاق النار وإرساء الهدنة، مع التركيز على الحلول الدبلوماسية التي تحفظ الأرواح وتحد من تفاقم الأزمة. ويُظهر هذا الدور الأردني المتعدد الأبعاد قدرة المملكة على الجمع بين الضغط السياسي، العمل الإنساني، والتفاعل الدبلوماسي، متحركًا وحيدًا في مواجهة مأساة غزة في ظل صمت المجتمع الدولي، ما يجعلها صمام أمان حقيقي ومثالًا بارزًا على التحرك المسؤول في أوقات الأزمات.
وختامأ إن الخذلان الدولي المستمر أمام مأساة غزة لا يقتصر على كونه إخفاقًا سياسيًا فحسب، بل يمثل انهيارًا مؤسفًا للشرعية القانونية والأخلاقية على مستوى العالم. فالالتزامات الدولية تجاه حماية المدنيين وحقوق الإنسان تتلاشى أمام صمت المجتمع الدولي، ما يضع القانون الدولي في مواجهة واقعية صارخة تكشف هشاشته وعجزه عن حماية الأبرياء.
في هذا المشهد المأساوي، يبرز الأردن كصوت عربي وإنساني مسؤول، متحركًا وحيدًا لحماية المدنيين في غزة، وموفّرًا المساعدات الإنسانية، ومشاركًا بفاعلية في جهود التفاوض والوساطة، ليؤكد أن الدور الوطني يمكن أن يشكل فارقًا حقيقيًا حين تتعثر المؤسسات الدولية في أداء واجباتها.
وخلاصة القول يجب على العالم ان يدرك أن التاريخ لم يعد يكتبه المنتصر كما كان في العصور الماضية؛ فاليوم، الشعوب الحرة هي من تصنع صفحات التاريخ، لتكون شاهدة على الخذلان الدولي، وعلى الزيف الأخلاقي الذي يختبئ وراء الشعارات الكاذبة حول حقوق الإنسان، الحرية، والديمقراطية. وغزة، ببطولتها وصمودها، تحفر في الذاكرة العالمية صورة صارخة لعجز المؤسسات الدولية عن حماية المدنيين، وتكشف عن المسافة الشاسعة بين القيم المعلنة والواقع الميداني، لتصبح شهادة حيّة على المسؤولية الإنسانية التي يجب أن يتحملها المجتمع الدولي دون تأجيل.