كُروم


قبل ثماني سنوات :

لون الدم يغطي الأرض والسماء ، والليل والنهار وروحي وأحلامي ....

رائحة الدم باتت مسيطرة على كل شيء في يومي وفي حلقي ،،، فكيف أختبيء منها وأنا ملجأها ....

لقد جئت كطبيب ضمن قوات حفظ السلام في منطقة باندو الشرقية المشتعلة بحرب أهلية بين المتمردين بقيادة كومو وجيش شسكا الحكومي برئاسة زنتي ....

الأمم المتحدة باتت عاجزة عن وضع إحصائيات دقيقة لعدد القتلى الذي فاق ال 800 ألف قتيل معظمهم من المدنيين ....

الجثث تنتشر كأوراق الشجر على جانبي الطريق ،،، حتى أنني بتّ يائساً من إمكانية إنقاذ أي روح في هذا الجنون المطبق الذي يسيطر على الطرفين ....

تنوعت أنواع القتل هنا ،،، فمن إعدامات بالرصاص لأشخاص مربوطي الأيدي ،،،، إلى إعدامات بحزّ الرقاب بالسكاكين ،،،، إلى إعدامات بتقطيع الجثث بالسواطير ،،، إلى الحرق والدهس والتفجير ...

كنا نهرب من قرية إلى أخرى ،،، نهرب من بشاعة القتل الذي وجدناه ،،، وبقايا الجثث التي دفناها ،،،، ووجوه الأطفال التي تجمدت ملامحها بين أيدينا ،،،،، لنغرق في دماءٍ أعمق غوراً ،،، وأكثر سخونة في قرية أخرى ....

قبل أسبوع تم اختطاف اثنين من زملائي ،،،، وعرضت صورهم معصوبي الأعين في الصحف ،،، مهددين بالقتل في حال لم يتم إطلاق سراح بعض الأسرى ....

كان قلبي قد تجمد في حلقي حين سمعت الخبر ،،، شعرت بالغضب والأسف والأسى ،،،، فنحن هنا لمعالجة الجرحى وإنقاذهم ،، ولسنا طرفاً في النزاع حتى يتم اختطافنا وتعذيبنا وقتلنا ....

قبل شهرين تم اختطاف صحفي فرنسي ،،، انتهت محنته بجثة ملقاة على طرف الطريق ،،، ولم يطلق سراح أحد ....

الجيش يسلح الميليشيات الموالية له بالسواطير ،،، في انتظار وصول الإمدادات الثقيلة الموعود بها من حلفائه في الشمال ،،، والسواطير لا تقوى على مواجهة بندقية ،،،،، فيعمل على تنفيذ جرائم بشعة في قرى المدنيين ،،،، بحجة أنها تدعم المتمردين الانفصاليين ،،،،لتنتهي بمحرقة ترسل دخاناً أسود يرتفع حتى أعتاب السماء ،،، يحمل صراخ الأطفال ونحيب النساء وعويل الرجال وهم يذبّحون كالنعاج أمام عائلاتهم ....

منذ يومين ألقى زنتي خطاباً مسجلاً أكّد فيه على وحدة الوطن ،،،، واستئصال شأفة المتمردين وكل الخونة ،،، وتوعدهم بالحرب الضروس .....

فردّ عليه كومو بثلاث تفجيرات لسيارات مفخخة أمام سفارة تولان المتحالفة معه ، وسفارة موبا المحايدة ، ليسقط أكثر من مائة شخص ما بين قتيل وجريح ....

المنطقة العازلة بين باندو وشيسكا ليست عازلة ولا معزولة ،،، قبل سنتين كانت مأهولة بعدّة قرى ،،،، واليوم لم يبقَ منها إلا أكواخ صامتة وجثث متفحمة ،،،، فقد كانت ساحة مواجهات طاحنة بين الجيش والمتمردين ،،، يسقط فيها آلاف الأشخاص ....


اليوم :

لم أعد أتابع الأخبار ،،،، ولا الصراع في باندو ،،،، فقد تحول الصراع إلى حرب استنزاف طويلة ،،،،، ليس لها نهاية إلا بفناء أحد الطرفين ،،،،،

وبينما كنت أجلس في شرفة بيتي أتصفح الجريدة ،،، عقدت الصدمة لساني ،،،، حين رأيت كومو يصافح زنتي الذي بات يحمل كرشاً أكبر في الصورة عما عرفته سابقاً ،،،، وقد أبرما معاهدة صلح واتفاقية سلام يوم أمس ،،، برعاية دولية ....

تابعت قراءة الخبر وأنا ممزق الذاكرة ،،،، حتى قرأت من ضمن ما اتفقا عليه ،،، أن يقتسما المنطقة العازلة مناصفةً ،،،، حيث أنها باتت منطقة خصبة بفعل السماد البشري على مدى ثماني سنوات ،،، فقلت في نفسي ربما يزرعونها كروم عنب ،،، لينتجوا منها نبيذاً أحمرَ قاني بلون الدم ،،،، يشربانه نخب الصلح والسلام .....


تمت


د. أسامة عبد القادر – الأردن - الإمارات

drosamajamal@hotmail.com