جيبوتي الساحة التالية للتنافس الأميركي - الصيني في البحر الأحمر
في ظل التوسع السريع لنفوذ الصين على طول البحر الأحمر، تبرز جيبوتي، الدولة الصغيرة الواقعة عند مضيق باب المندب، كموقع إستراتيجي بالغ الأهمية في سياق التنافس بين القوى الكبرى.
وعلى الرغم من أن مساحتها لا تتجاوز مساحة ولاية أميركية متوسطة مثل نيوجيرسي، إلا أن جيبوتي تحتضن عددًا من القواعد العسكرية الأجنبية، من بينها قواعد للولايات المتحدة، وفرنسا، واليابان، ما يعكس الأهمية الجيوسياسية التي تتمتع بها بسبب موقعها عند أحد أكثر الممرات البحرية حيوية في العالم، حيث يمر عبر مضيق باب المندب ما بين 10 إلى 12 في المئة من حجم التجارة العالمية سنويا.
ومنذ عام 2017، عززت الصين وجودها العسكري والاقتصادي في جيبوتي من خلال إنشاء أول قاعدة عسكرية خارج أراضيها، والتي تصفها بأنها منشأة لوجستية، غير أن قربها الشديد من قاعدة "كامب ليمونييه” الأميركية أثار شكوكًا دولية بشأن طبيعة أنشطتها الحقيقية.
وقد ترافق هذا الحضور العسكري مع توسع اقتصادي كبير من خلال شركات صينية مملوكة للدولة، لاسيما مجموعة "تشاينا ميرتشنتس”، التي أصبحت تملك حصصًا مباشرة في ميناء دوراليه متعدد الأغراض، وتتولى جانبًا من عمليات تشغيله اليومية. كما أجرى الجيشان الصيني والجيبوتي تدريبات عسكرية مشتركة، ما يعكس تنامي مستوى التنسيق بين البلدين.
وتقول الباحثة إيميلي ميليكين في تقرير نشره المجلس الأطلسي إن التأثير الصيني في جيبوتي قد بلغ حد مطالبة بكين للحكومة المحلية بعدم السماح للطائرات الأميركية بالتحليق على ارتفاع منخفض فوق القاعدة الصينية، ما يؤشر إلى نوع من الحصرية الأمنية المتنامية.
ولا يبدو الحضور الصيني في جيبوتي معزولًا، بل يأتي في سياق أوسع تستثمر فيه بكين المليارات من الدولارات في مشاريع البنية التحتية على امتداد البحر الأحمر، مثل الموانئ والسكك الحديدية والمناطق الصناعية، بما في ذلك مشاريع إستراتيجية في مصر ضمن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
ويتسع نطاق هذه الاستثمارات ليشمل قطاعات الطاقة الخضراء، حيث وقّعت شركة "تشاينا إنرجي إنجنيرينغ” الحكومية صفقة بقيمة 6.75 مليار دولار لتطوير مشاريع للأمونيا والهيدروجين الأخضر.
وفي مقابل ذلك، تواجه الولايات المتحدة تحديا حقيقيا في الحفاظ على موقعها داخل جيبوتي.
وعلى الرغم من أن لها وجودًا عسكريًا دائمًا وقاعدة كبيرة في "ليمونييه”، إلا أن التفاعل الأميركي مع جيبوتي على المستويات الاقتصادية والمدنية يظل محدودًا، بل ويبدو متراجعًا أمام التوسع الصيني.
وتشير الأرقام إلى أن حجم التبادل التجاري بين واشنطن وجيبوتي بلغ حوالي 185 مليون دولار في عام 2023، في حين تجاوز حجم التبادل التجاري مع الصين ثلاثة مليارات دولار.
وعلاوة على ذلك، تخضع حركة الجنود الأميركيين لقيود صارمة تمنعهم من التفاعل مع المجتمع المحلي، بينما يتمتع الجنود الصينيون بحرية أكبر، ويشاركون في أنشطة عامة مثل البطولات الرياضية، ما يمنح الصين تفوقًا واضحًا في مجال القوة الناعمة.
وفي ضوء هذا التراجع، تبدو الحاجة ملحة إلى تبني مقاربة إستراتيجية جديدة.
ورغم المعوقات، يمكن للولايات المتحدة أن تمهد الطريق لتحالفات مستقبلية عبر خطوات عملية تبدأ بتوسيع حضورها الاقتصادي داخل جيبوتي، لاسيما في مجالات البنية التحتية والطاقة الرقمية والطاقة المتجددة، وذلك عبر تمويل مباشر أو تشجيع القطاع الخاص من خلال وكالة تمويل التنمية الأميركية. كما أن تعزيز العلاقة بين القوات الأميركية والمجتمع المحلي، مثل السماح للجنود بالتسوق من الأسواق المحلية واستهلاك المنتجات الجيبوتية في القاعدة، يمكن أن يسهم في تحسين صورة واشنطن داخل البلاد.
ومن جانب آخر، يمكن للإدارة الأميركية أن تعمل على إدخال التكنولوجيا والخبرات الإسرائيلية في مجالات مثل الزراعة، وتحلية المياه، والمراقبة الأمنية، من خلال شراكات غير مباشرة أو عبر قنوات متعددة الأطراف.
وقد يشكل هذا مدخلًا لتهيئة الأرضية لتقارب مستقبلي بين جيبوتي وإسرائيل، ضمن سياق إقليمي أوسع، شريطة احترام المواقف السياسية الحالية للقيادة الجيبوتية.
وفي النهاية، من المهم أن تدرك الولايات المتحدة الطبيعة البراغماتية للسياسة الخارجية الجيبوتية، والتي تقوم على تحقيق أقصى استفادة من المنافسة الدولية دون الانحياز الكامل لأيّ طرف.
وبالتالي، فإن قطع جيبوتي لعلاقاتها مع الصين لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها، بل يتطلب إستراتيجية أميركية طويلة الأمد، واضحة ومتسقة، تعتمد على شراكات مدروسة وليس مجرد التمركز العسكري.
وفي وقت تواصل فيه الصين توسيع نفوذها على امتداد البحر الأحمر، لا تزال أمام الولايات المتحدة فرصة حقيقية لتثبيت موطئ قدمها في جيبوتي، شرط أن تنتقل من سياسة ردود الأفعال إلى إستراتيجية شاملة تؤمن بالتنمية، وتستثمر في بناء علاقات متجذرة مع الشعب الجيبوتي ومؤسساته.
والنجاح في ذلك لا يخدم المصالح الأميركية فحسب، بل يشكل عامل استقرار حاسمًا في واحدة من أكثر المناطق حساسية على المستوى الجيوسياسي العالمي.