الملك عبد الله يختار الاصلاح والاخوان يختارون الشّارع والفوضى

شبع الاردن شعارات ومزايدات يرفعها حاليا بعض المتاجرين بالدين من الذين لا يريدون الاعتراف بانّ الاردن ما كانت لتضيع منه القدس ولا الضفة الغربية لولا المزايدات.

لا يعني قبول استقالة الحكومة الاردنية برئاسة عون الخصاونة وتكليف فايز الطراونة تشكيل حكومة جديدة سوى الرغبة القائمة لدى الملك عبدالله الثاني في الذهاب في الاصلاحات الى النهاية. يعرف العاهل الاردني قبل غيره ان ليس في الامكان اضاعة الوقت، كما ان لا خيار آخر امام المملكة. لا بدّ من اجراء انتخابات نيابية قبل نهاية السنة بعد صدور قانون جديد للاحزاب وآخر للانتخابات وانشاء المحكمة الدستورية. لذلك قال الملك في رده على استقالة الخصاونة: "لا نملك ترف الوقت ولا امكانية التأجيل والتأخير بالنسبة الى ما التزمنا به".

باختصار شديد، لا يمكن للمملكة الاردنية ان تسمح لنفسها بان تكون خارج الربيع العربي في وقت يسعى الاخوان المسلمون بشكل واضح الى استغلال اي فرصة لاثارة الاضطرابات، خصوصا بعدما اعتبروا انهم استطاعوا التغلغل في اوساط العشائر الاردنية وان نفوذهم لم يعد مقتصرا على الوسط الفلسطيني. لا بدّ من ان تأخذ اللعبة السياسية مجراها الطبيعي وقطع الطريق على الاخوان وغير الاخوان من الذين يتجاهلون ان الاردن ليس دولة قمعية وان فكرة الاصلاح ليست بنت البارحة. من يريد ان يتذكّر ان المملكة اختارت العودة الى الحياة البرلمانية في العام 1989 وان الانتخابات جرت في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من تلك السنة في اليوم الذي كان فيه جدار برلين يتهاوى.

بحسه السياسي المرهف، عرف الملك حسين، رحمه الله، ان العالم يتغيّر وان الحرب الباردة انتهت. راح يرتب الاوضاع الداخلية للاردن بما يتلاءم مع التغييرات. كان ذلك قبل ثلاثة وعشرين عاما. نجحت الاردن، بفضل حكمة الحسين في تفادي العواصف التي مرت فيها المنطقة، بما في ذلك الاجتياح العراقي للكويت في 1990 والحرب التي تلته ثمّ انعقاد مؤتمر مدريد وذهاب الفلسطينيين الى توقيع اتفاق اوسلو.

ماذا تعني الاصلاحات التي يصرّ عليها عبدالله الثاني؟ انها تعني اوّلا ان اللعبة السياسية حية ترزق في الاردن وان لا مستقبل للاردنيين ولاولادهم ولا قدرة على مواجهة الاخطار الكبيرة من دون تفادي النزول الى الشارع. فاللجوء الى الشارع الذي يسعى اليه الاخوان يعني اوّل ما يعني اللجوء الى الفوضى سقوط في فخّ اولئك الذين لا يريدون الخير للاردن. على رأس هؤلاء تأتي اسرائيل التي وجدت في كلّ من الملك الحسين وفي خليفته الملك عبدالله الثاني خصما عنيدا. عرف العاهل الراحل الذي بنى الاردن الحديث وعرف خليفته الذي طوّر البلد ووضعه على تماس مع كلّ ما هو حضاري في العالم كيف التصدي لمشروع الوطن البديل. من يلجأ الى الشارع في الاردن انما يلعب هذه اللعبة الممجوجة التي لن تعود على البلد سوى بالخراب. يبدو الشارع مع ما يعنيه من لجوء الى العنف والفوضى والتطرف سلاح الاخوان، فيما الاصلاح والاحتكام الى صندوق الاقتراع خيار العاهل الاردني.

ما لا بدّ من تذكره دائما ان الاردن اختارت الاصلاحات واختارت ان تكون جزءا لا يتجزّأ من الربيع العربي. فقبل ايام من قبوله استقالة حكومة الخصاونة قال عبدالله الثاني امام البرلمان الاوروبي في مدينة ستراسبور الفرنسية التي ترمز الى حدّ كبير الى المصالحة التاريخية بين فرنسا والمانيا بعد حروب طويلة بينهما: "ان العالم العربي افاق من غفوته وان التغيير الايجابي بدأ". واضاف انه "تتكثف امامنا احداث ربيع طويل في العالم العربي. لن ينتهي الربيع في موسم واحد ولا حتى في سنة. يواجه مجتماعتنا تحدّ يتمثّل في ضرورة الانتقال من مرحلة الاحتجاجات الى البرامج ومن النقد الى الاستراتيجية الوطنية".

من يقول مثل هذا الكلام، يعي تماما ما يواجه المنطقة من مشاكل على الصعيد الداخلي. ابرز تلك المشاكل فرص العمل امام الشباب. تحوّل الشباب في المنطقة العربية الى قنبلة موقوتة في غياب القدرة على تلبية طموحاتهم وايجاد فرص عمل لهم. هناك "مئة مليون شاب عربي يشكلون اكبر تجمّع شبابي في تاريخنا" يقول العاهل الاردني، مضيفا ان "ليس في وسعنا ترك ولو مواطن واحد شاب واحد ينتظر عبثا". المهم عدم سقوط الشاب العربي في اليأس. اليأس هو الذي يولّد الانفجارات الكبيرة، كما حصل في مصر وسوريا وليبيا واليمن وقبل ذلك في تونس.

لا شكّ ان الاردن تواجه مرحلة صعبة ومعقدة في الوقت ذاته. هناك زيادة كبيرة في عدد السكّان وغياب للثروات الطبيعية وحتى المياه. هناك تحد كبير اسمه التعليم ومستواه. هذا التعليم حمى الى الآن قسما لا بأس به من المجتمع الاردني وحال دون تمدد موجة التطرّف اكثر. هذا التعليم هو الذي يسمح لاردنيين كثيرين بايجاد فرص عمل في الاردن وخارجها وحتى في العالم الواسع. هذا التعليم، الذي ركّز عليه عبدالله الثاني منذ اليوم الاوّل لصعوده على العرش، في اساس العملية الاصلاحية التي لا تراجع عنها.

هذه العملية ليست بنت البارحة. كان حلم الملك الحسين الدائم وذلك منذ الخمسينات ان تكون هناك حياة حزبية سليمة وان يكون هناك مجلس للنوّاب تنبثق عنه السلطة وفيه معارضة تحاسب السلطة. حالت التعقيدات الاقليمية والمزايدات العربية والشعارات الفارغة التي ترفع باسم القومية احيانا وباسم الدين في احيان اخرى دون قيام هذه الحياة الحزبية السليمة التي يسعى الملك عبدالله الثاني بدوره الى ترسيخها.

لا عودة عن الاصلاح في الاردن، لكنّ على الاردنيين ادراك ان عليهم تحمّل مسؤولياتهم والابتعاد عن كلّ انواع الكلام الذي لا يقدّم ولا يؤخّر في بلد عرف دائما كيف يحافظ على حقوق مواطنيه وكيف يحميها في مواجهة المزايدين وحملة الشعارات. انها الشعارات التي لا تصبّ الاّ في خدمة اولئك الذين عملوا كلّ شيء من اجل ضياع فلسطين في العام 1948 والقدس والضفة الغربية في العام 1967.

لقد شبع الاردن شعارات ومزايدات يرفعها حاليا بعض المتاجرين بالدين من الذين لا يريدون الاعتراف بانّ الاردن ما كانت لتضيع منه القدس ولا الضفة الغربية لولا المزايدات ولو ترك الحسين يستخدم حكمته ورؤيته. كان في الامكان تفادي المأساة المستمرة الى يومنا لو امتلك العرب وقتذاك ذرة من العقل بدل تصديق الشعارات التي كانوا يطلقونها.

تحدث عبدالله الثاني في ستراسبور بلغة يفهمها العالم. تحدث ايضا عن السلام وعن انه مصلحة استراتيجية للاردن. كان خطابه في مستوى التحديات الداخلية الاقليمية. من المهم ان يرتفع الاردنيون، بغض النظر عن مشاربهم، الى مستوى هذا الطرح في وقت تتهدد المخاطر الجميع. فشعار "الاردن اوّلا" هو الشعار الوحيد الصالح للمرحلة الراهنة. كلّ ما عداه سقوط في فخّ المزايدات التي تعتبر الطريق الاقرب الى الكوارث
!