تذكرة الألباب في مفهوم الطعن بالأنساب



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعد :
لقد دفعني لتأليف هذه الرسالة الصغيرة , جهل بعض الأشخاص بمفهوم (( الطعن في الأنساب )) فقد فسر هؤلاء مفهوم الطعن في الانساب بخلاف تفسير السلف , فأصبح كل مخالف في نظر هؤلاء طاعن في الأنساب , وأصبح كل منافح وراد ومدافع عن أنساب العرب أصبح عندهم طاعن في الأنساب , وهذا يدل على جهلهم في مصطلحات علم الأنساب .

فإن معنى (( الطعن في الأنساب )) : هو التكلم على نسب قبيلة بغير علم .

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ( الفتح ) (5/211) : ((
الطعن في الأنساب أي القدح من بعض الناس في نسب بعض بغير علم )) .

قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في ( الفتاوى ) (1/52)
: (( الطعن في الأنساب فُسِّر بالموجود في زماننا ينتسب إنسان إلى قبيلة ويقول بعض الناس ليس منهم من غير بينة بل الظاهر أنه منهم"
والمعنى أن هذا ذنبه عظيم ، أما إذا كان من علم ومعرفة كنقل واقع معين ، أو أمر مستفيظ في منطقة ، أو إطلاع على وثيقة معروفة وموثقة ، أو كتا ب قديم فهذا لا بأس به بل إن ذلك من إنكار المنكر الذي حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو إدعاء النسب فقال: (( من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام)) .... )) .

لكن العجب من هؤلاء كيف يرمون الباحث بالطعن في الأنساب بمجرد مخالفته لهم ؟!! فإن وافقهم فهو حجة وإن خالفهم فهو طاعنُ في الانساب !! والله المستعان .

ولو تصفح هؤلاء كتب الانساب لوجد أكثر من قول في نسب قبيلة , كنسب قبيلة ما , تجد أحد العلماء نسبها الى لخم والاَخر نسبها الى عاملة وكل واحد من هؤلاء معه دليل , فهل يقال لأحد هؤلاء العلماء طاعن في الأنساب ؟!!!!!

وهناك البعض يستشهدون بمقولة (( الناس مؤتمنون على أنسابهم )) في إنتسابهم الى قبائل العرب , وهذا مما يميع أنساب العرب ويضيعها وذلك لأن كل من هب ودب أصبح ينتسب الى قبيلة من قبائل العرب وفي جعبته هذه العبارة !! فلو قلت له : ما هو دليلك على إنتسابك لهذه القبيلة ؟ يقول : الناس مؤتمنون على أنسابهم !!!!

وهذه العبارة فهمها الناس على غير مرادها , فلا بد من البينة والبرهان من أقوال علماء النسب , وقد قال الشيخ بكر ابوزيد في ( فقه النوازل ) : ( وهاهنا فائدة يحسن تقييدها والوقوف عليها وهو أن هذا (أي مقولة الناس مؤتمنون على أنسابهم) ليس معناه تصديق من يدعي نسباً قبلياً بلا برهان ، ولو كان كذلك لاختلطت الأنساب، واتسعت الدعوى، وعاش الناس في أمر مريج، ولا يكون بين الوضيع والنسب الشريف إلا أن ينسب نفسه إليه. وهذا معنى لا يمكن أن يقبله العقلاء فضلاً عن تقريره. إذا تقرر هذا فمعنى قولهم ” الناس مؤتمنون على أنسابهم ” هو قبول ماليس فيه جر مغنم أو دفع مذمةٍ ومنقصة في النسب كدعوى الاستلحاق لولد مجهول النسب )اهـ .

وسوف أضرب للعاقل اللبيب أمثلة تبين منهج العلماء في علم الأنساب كي يعلم من أين ( تؤكل الكتف ) :

ذكر ابن حبان في ( الثقات ) (7/380) قال : (( لم يكن بالحجاز أحد اعلم بأنساب الناس وايامهم من محمد بن اسحاق وكان يزعم ان مالكا من موالي ذي أصبح وكان مالك يزعم انه من انفسهم فوقع بينهما لهذا مفاوضة ...... )).

قلت : ولو عاش النسابة محمد بن إسحاق في هذا الزمان لقالوا عنه ( طاعنُ في الأنساب )وأصبح كالشن البالي من أقوالهم وطعوناتهم , ولكن رحم الله علماء السلف أهل فهم ونظر .

وقال الحافظ ابن كثير القرشي في ( البداية والنهاية ) (11/21) : (( وفي النصف من شوال ظهر رجل بظاهر البصرة , زعم أنه علي بن محمد بن احمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب , ولم يكن صادقا وانما كان عسيفا ـ يعني أجيرا من عبدقيس ـ )).

وقال ايضا في (11/188) : (( أول خلفاء الفاطميين الادعياء الكذبة وهو ابومحمد عبيدالله المدعي انه علوي . ))
قلت : فهل الحافظ العلامة ابن كثير طاعن في الأنساب ؟!!! أم أنه ينافح ويدافع عن أنساب العرب وصيانتها من الدخلاء .
وكذلك صنف الامام ابوشامة كتاب في إبطال انساب الدولة الفاطمية سماه ( كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والكر والكيد ) وكذلك صنف فيهم الباقلاني كتاب سماه ( كشف الأسرار وهتك الأستار ) وكذلك ابوحامد الاسفراييني وغيرهم من اهل العلم .

وايضا قد رد الإمام الذهبي على ابوالخطاب الكلبي حين أنتسب إلى دحية الكلبي ـ رضي الله عنه ـ كما في كتابة النفيس ( الميزان ) (3/186) : (( عمر بن الحسن أبو الخطاب بن دحية الاندلسي المحدث متهم في نقله مع أنه كان من أوعية العلم , دخل فيما لا يعنيه من ذلك أنه نسب نفسه فقال : عمر بن حسن بن علي بن محمد بن فرح بن خلف بن قومس بن مزلال بن ملاك بن احمد بن بدر بن دحية بن خليفة الكلبي , فهذا نسب باطل لوجوه :
احدها : أن دحية لم يعقب . (1)
الثاني : أن على هؤلاء لوائح البربرية .
وثالثها : بتقدير وجود ذلك سقط منه أباء فلا يمكن أن يكون بينه وبينه عشر أنفس )).

قلت : فهل الحافظ والمؤرخ الذهبي يطعن في الأنساب ؟!!

وأيضاً قد رد الأديب محمود شكري الالوسي على يوسف النبهاني وإنتسابه إلى نبهان طي , كما في كتابة ( غاية الأماني ) (2/113) : (( فالنبهاني المخذول ان كان منتسباً لنبهان بن حرام بن عمر بن الغوث وبنو نبهان بطن من طي فليس لقبيلته فضل على بني باهلة بل هم سواء في نظر الشرع والعقل , هذا ان سلمنا له دعوى هذا النسب وان قلنا انه نبطي من انباط الشام أو من الجرامقة ـ كما هو الظاهر ـ ))(2).

وكذلك رد علماء الأمة على نسب الرفاعيين المنتسبين الى احمد الرفاعي , وأثبتوا أن الرفاعي ليس له عقب (3) وليس من الأشراف بل هو من بني رفاعة من جهينة .

قال ابن خلكان كما في ( البداية والنهاية ) (12/697) : (( وليس للشيخ أحمد عقب )) وكذلك نقل الإجماع ابوسعيدة النسابة في ( تاريخ المشاهد الشرقيه ) على ان الرفاعي ليس له عقب . وكذلك قال شمس الدين ناصر الدمشقي كما في ( الفتح المبين ) (75) : (( لم اعلم للرفاعي نسبا صحيحا الى علي بن ابي طالب ولا الى احد من ذريته الأطايب )) وكذلك الشعراني في ( طبقات الصوفية ) نسب الرفاعي الى قبيلة من العرب ولو كان الرفاعي من الاشراف لذكر ذلك الشعراني ولو بالإشارة , وكذلك ابن الأثير وسبط ابن الجوزي وابن عنبة وابن كثير وغيرهم كلهم أثبتوا أن الرفاعي ليس من الأشراف وليس له عقب .

فهل هؤلاء العلماء الكبار يطعنون في الأنساب ؟ حاشا وكلا بل هم ينافحون عن انساب العرب .

وكذلك انساب شيوخ الصوفية كالشاذلي والبدوي والمغربي والغولي وغيرهم , فلا تعرف لهؤلاء أنساب صحيحة الى ال البيت انما هو سند وسلسلة الورد للتمسح والتبرك بالخرقة الخضراء التي يعتقدون ان النبي ( علية الصلاةوالسلام ) أعطاها لعلي بن ابي طالب ـ رضي الله عنه ـ .

فلو تصفحتم كتب الأنساب القديمة التي أختصت في أنساب اَل علي بن ابي طالب ـ رضي الله عنه وعنهم ـ , لن تجد فيها ذكر للرفاعي والشاذلي والمغربي والبطائحي وغيرهم .

وهذه أنساب أشراف مكة وهم الأن ملوك الأردن الحبيب ـ حفظهم الله من كل مكروه ـ لن تجد في سلسلة أنسابهم شاذلي أو رفاعي أو بطائحي ... وكذلك اشراف المدينة المنورة لن تجد في سلسلة أنسابهم ذكر للرفاعي والبطائحي والشاذلي والمغربي ........ وكذلك أشراف ينبع لن تجد في سلسلة أنسابهم ذكر للرفاعي والشاذلي والمغربي والبطائحي وغيرهم ......

وذلك لأن أنسابهم صحيحه مشهوره في كتب الأنساب القديمة التي أختصت في نسب الطالبيين .

وهذا هو منهج العلماء في الذب والدفاع عن الأنساب , فهل هؤلاء العلماء الأجلاء يطعنون في الأنساب ؟! حاشا وكلا .
هذا ما أحببت تبيانه والحمد لله رب العالمين .

ــــــــــــــ
1ـ أنظر رسالتي ( رفع الحرج في ذكر من لم يعقب أو درج ) .
2ـ يقول الالوسي هنا : ( وان قلنا انه نبطي من انباط الشام او الجرامقة ـ كما هو الظاهر ـ ) وهذه من القيافة التي هي أصل في علم الأنساب .
3ـ أنظر رسالتي ( رفع الحرج في ذكر من لم يعقب أو درج ) .