إلى متى يمكن للاقتصاد الأميركي أن يتحدى التوقعات؟
عندما تولّى دونالد ترامب منصبه قبل ستة أشهر، ترقب خبراء الاقتصاد التطورات بحذر بالغ.
فقد تعهّد الرئيس الأميركي ببرنامج سياسي واقتصادي جذري في ولايته الثانية، شمل حملة صارمة على الهجرة تهدد بإرباك سوق العمل، وتقليصاً كبيراً لحجم الحكومة الفدرالية، ونظاماً جديداً للتعرفة الجمركية يُنذر بآثار سلبية على النمو والتضخم.
ومع أن ترامب ألغى معظم قواعد السياسة التقليدية خلال النصف الأول من العام الجاري، فقد أظهر الاقتصاد الأميركي متانة مفاجئة، رغم تلك التغييرات الصادمة.
ففي البيت الأبيض، نفّذ ترامب وعوده وزاد عليها؛ فقد رحّل آلاف المهاجرين، وقلّص العقود الحكومية الفدرالية، وأحدث صدمة في الأسواق بإعلانه عن تعرفات جمركية ثقيلة على شركاء التجارة الأميركيين. كما حاول الضغط على الفدرالي الأميركي لخفض معدلات الفائدة.
ومع ذلك، لم تظهر البيانات الاقتصادية حتى الآن مؤشرات واضحة على تداعيات سلبية، بل فاقت الأرقام الرسمية مراراً توقعات الاقتصاديين.
وكتب ترامب هذا الشهر على منصته «تروث سوشال»: «الأخبار الكاذبة وما يُسمى بالخبراء كانوا مخطئين مجدداً. التعرفات الجمركية تجعل بلدنا يزدهر!».
ورغم أن الاقتصاد لا يزدهر بالدرجة التي يدّعيها ترامب، إلا أنه لم ينهَر كما خشي كثيرون بعد الكشف عن نظام التعرفة الجديد في الثاني من أبريل نيسان — أو ما يصفه البيت الأبيض بـ«يوم التحرير».
فالتضخم، رغم ارتفاعه الطفيف، لا يزال في نطاق معتدل، وسوق العمل لا يزال قوياً، وأرباح الشركات في وول ستريت ثابتة، كما تعافت الأسواق المالية بعد تراجع مؤقت.
ورغم تسجيل الناتج المحلي الإجمالي انكماشاً بنسبة 0.5% في الربع الأول من العام —وهو أول تراجع فصلي منذ ثلاث سنوات— فإن الأسواق لم تتفاعل سلباً، إذ فسّر المستثمرون هذا الانكماش على أنه نتيجة لتسارع الاستيراد قبيل فرض الرسوم، لا دلالة على ضعف اقتصادي هيكلي.
ويتوقع الفدرالي في أتلانتا، وفق مؤشره «GDPNow»، أن يقفز النمو الاقتصادي في الربع الثاني إلى 2.4%، وهو رقم من المنتظر صدوره الأسبوع المقبل.
ويقول توماس سايمونز، كبير الاقتصاديين الأميركيين في بنك «جيفريز» الاستثماري: «لا أعتقد أن هناك ما يدعو للقلق على نطاق واسع»، مشيراً إلى أن تشاؤم المستهلكين لا يعكس بالضرورة الواقع الاقتصادي.
وأضاف: «إذا نظرنا إلى تاريخ أسباب الركود، فسنجد أنها غالباً ما تتعلق بصدمات مالية، أو انكماش في المعروض النقدي، أو تحولات حادة في السياسة المالية — ونحن لا نعيش مثل هذه الظروف حالياً».
يقول أندرو هولنهورست، كبير الاقتصاديين في مصرف «سيتي»: «هذا اقتصاد أظهر مرونة تفوق التوقعات منذ عدة سنوات».
لكن محللين آخرين يحذّرون من أن التأثيرات السلبية، وإن لم تظهر بالسرعة التي خشيها البعض، لا تزال تلوح في الأفق وقد تظهر خلال الأشهر المقبلة.
ويقول موريس أوبستفيلد من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن: «ما زلنا في مرحلة مبكرة». ويضيف: «يبدو أن الاقتصاد يتعامل حالياً مع بعض الصدمات، لكن هذه المرونة الظاهرة على السطح قد تكون خادعة إلى حدّ ما».
وقد قوبل تجاهل الأسواق للنهج الراديكالي الذي تتبناه إدارة ترامب بارتياح داخل البيت الأبيض، حيث يعتبر المسؤولون أن عدم حدوث انهيار اقتصادي حتى الآن دليل على أن التحذيرات السابقة كانت مبالغاً فيها.
ويقول جو لافورنيا، مستشار وزير الخزانة الأميركي: «لم نشهد حتى الآن أي تأثير يُذكر على المستهلكين أو الشركات في أميركا من حيث ارتفاع التكاليف». ويضيف: «وحتى إذا حدث ذلك، فسيكون التأثير محدوداً مقارنة بما نحن عليه اليوم».
تأثيرات الرسوم الجمركية على الأسعار
ومن بين السياسات التي يتوقع الخبراء أن تُقوّض الاقتصاد الأميركي، تأتي التعرفات الجمركية الواسعة التي يستخدمها ترامب لإعادة تشكيل علاقات التجارة الأميركية مع دول العالم.
وقد أدّت تهديدات الرئيس بفرض رسوم ضخمة على الدول التي تفشل في التوصل إلى اتفاق تجاري مع واشنطن، وتقلّباته المتكررة بشأن مستويات التعرفة، إلى إثارة حالة من الإرباك والقلق، بشأن احتمالية أن يتحمل المستهلك الأميركي في النهاية العبء من خلال ارتفاع أسعار السلع.
لكن حتى الآن، لا تزال تأثيرات الرسوم الجمركية على الأسعار محدودة. فقد بقيت معدلات التضخم تحت السيطرة، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين إلى نسبة سنوية بلغت 2.7% في يونيو حزيران، مع بدء انعكاس أثر التعرفات الجمركية تدريجياً. وظل المؤشر دون مستوى 3% منذ يناير كانون الثاني، وهو ما يُعد تراجعاً كبيراً مقارنة بذروة فاقت 9% في عام 2022 عقب جائحة كورونا، ويقترب من هدف الاحتياطي الفدرالي البالغ 2%.
وسجّل مؤشر ثقة المستهلك الأميركي تحسناً في يوليو تموز، ليبلغ أعلى مستوياته خلال خمسة أشهر، وفقاً لمسوح جامعة ميشيغان، في حين تراجعت التوقعات بشأن التضخم.
تماسك سوق العمل
كما ظل سوق العمل متماسكاً، رغم المخاوف من أن تؤدي حالة عدم اليقين إلى تراجع التوظيف. فقد أُضيف ما يقرب من 800 ألف وظيفة خلال النصف الأول من العام، متجاوزاً التوقعات لأربعة أشهر متتالية. واستقر معدل البطالة عند نحو 4.1%، وهو مستوى يُعدّ عموماً «توظيفاً كاملاً» بحسب تقديرات الفدرالي.
وحتى في القطاع المؤسسي، فاقت النتائج التوقعات، حيث أعلنت الغالبية الساحقة من كبرى الشركات الأميركية عن أرباح فصلية أقوى من المتوقع خلال الربع الثاني. ووفقاً لبيانات «فاكت ست»، فإن 80% من الشركات المدرجة في مؤشر S&P 500 التي أعلنت نتائجها حتى صباح الجمعة –أي نحو 34% من إجمالي الشركات– تجاوزت تقديرات المحللين.
وقد استغلّ الرئيس ترامب هذه الأرقام لتعزيز ضغوطه على الفدرالي الأميركي من أجل خفض معدلات الفائدة، بهدف «إطلاق العنان للنمو» وتقليص فاتورة خدمة الدين الأميركي.
وفي خطوة غير معتادة، زار ترامب مقر البنك المركزي يوم الخميس –في أول زيارة من نوعها لرئيس أميركي منذ عهد جورج بوش الابن قبل نحو عشرين عاماً– في محاولة جديدة للضغط على جيروم باول، رئيس الفدرالي، لتخفيض تكلفة الاقتراض.
لكنّ الصورة الكاملة لتأثير تعريفات ترامب الجمركية على التضخم لا تزال غير مكتملة بما يكفي لدفع مسؤولي الاحتياطي الفدرالي نحو خفض معدلات الفائدة، بينما تستعد لجنة السوق المفتوحة الفدرالية للاجتماع يوم الأربعاء لتحديد الخطوة المقبلة بشأن تكاليف الاقتراض في الولايات المتحدة.
ورغم أن معظم أعضاء اللجنة رحّبوا ببيانات التضخم الأخيرة باعتبارها مفاجأة إيجابية، فإنهم يفضلون التريّث لرؤية ما إذا كانت ضغوط الأسعار الناتجة عن الرسوم الجمركية ستتزايد قبل أن يدعموا أول خفض للفائدة هذا العام.
ويُستبعد أن يوافق أغلب أعضاء اللجنة على خفض الفائدة قبل اجتماع منتصف سبتمبر أيلول، بحسب ما يرى فينسنت راينهارت، المسؤول السابق في الاحتياطي الفدرالي وكبير الاقتصاديين حالياً لدى «بي إن واي إنفستمنتس»، والذي أضاف: «من المرجّح أن يشهد الاجتماع مع ذلك معارضتين اثنتين».
ويتعلّق الأمر بعضوين عيّنهما ترامب في مجلس الاحتياطي، هما كريستوفر والر –المرشّح البارز لخلافة جيروم باول –وميشيل بومان، وكلاهما عبّر عن قناعة بأن الاقتصاد الأميركي قادر على امتصاص تأثير سياسات ترامب الجمركية. وقال راينهارت: «هما يعتبران أن الرسوم الجمركية مجرد صدمة سعرية مؤقتة لمرة واحدة».
وقد دفعت قوة الأداء الاقتصادي غير المتوقعة بعض الخبراء إلى الدعوة لإعادة النظر في كيفية تقييم المحللين لحالة الاقتصاد. وقال أورين كاس، مؤسس مركز الأبحاث اليميني «أمريكان كومباس» ومحرر مشارك في «فايننشال تايمز»: «الدرس الأهم من الأشهر الأخيرة هو أن الاقتصاديين بحاجة إلى تواضع أكبر في ما يخص قدرتهم على فهم تأثير تغييرات السياسة على الاقتصاد».
«ربما لا يزال التضخم في الطريق... لكن الاقتصاديين أخطأوا خمسة أشهر متتالية، فلماذا أصدقهم؟» – جو لافورنيا، مستشار وزير الخزانة الأميركي
وأضاف كاس: «معظم النماذج الاقتصادية المستخدمة تقوم على فرضية أن الأسواق الحرة دائماً هي الأفضل، وبالتالي فإن أي تدخل فيها سيؤدي تلقائياً إلى نتائج أسوأ، وفقاً لتلك النماذج».
أما مسؤولو إدارة ترامب فقد كانوا أكثر انتقاداً للمؤسسة الاقتصادية. وقال جو لافورنيا، مستشار وزير الخزانة: «المهنة الاقتصادية أخفقت كثيراً، وهناك تفكير جماعي مفرط وتركيز مفرط على جانب الطلب فقط في الاقتصاد»، مضيفاً: «ربما لا يزال هناك تضخم في الطريق. لكن الاقتصاديين كانوا على خطأ طوال خمسة أشهر متتالية، فلماذا عليّ أن أصدقهم؟».
وتُصرّ إدارة ترامب على أن مصدّري الدول الأجنبية هم من سيتحمّلون تكلفة الرسوم الجمركية، بصفتها ثمناً لدخول السوق الأميركية، وليس المستهلك الأميركي. وقال بيتر نافارو، مهندس الحروب التجارية لترامب، في مقابلة مع شبكة CBS هذا الشهر: «الواقع هو أن أثر الرسوم في عهد ترامب يُحمّل في معظمه أو كله على المنتجين في الدول التي تسعى بشدة للتصدير إلينا، وبالتالي هم من يتحمل العبء».
لكن بيانات حديثة بدأت تشير إلى إشارات إنذار. فالصورة المشرقة لسوق العمل قد تكون خادعة، إذ يُعزى جزء كبير من نمو الوظائف في يونيو حزيران إلى قفزة في التوظيف في القطاع الحكومي على مستوى الولايات، في حين تباطأ التوظيف في القطاع الخاص.
في الوقت نفسه، أظهرت بيانات التضخم في يونيو حزيران للمرة الأولى بوادر تأثر بالرسوم الجمركية، إذ ارتفعت أسعار السلع المستوردة مثل الأجهزة المنزلية والأثاث والملابس والإلكترونيات. كما شهد سوق الإسكان تباطؤاً واضحاً، متأثراً بأسعار المنازل المرتفعة ومعدلات الرهن العقاري، حيث انخفضت مبيعات المنازل القائمة إلى أدنى مستوياتها في تسعة أشهر خلال يونيو حزيران.
ولا تزال آثار بعض السياسات لم تتجلَّ بالكامل بعد. فحملة ترحيل المهاجرين التي يقودها ترامب، والمتوقع أن تؤثر على سوق العمل، إضافة إلى خفض العقود الحكومية، يُتوقّع أن تبدأ في التأثير تدريجياً على الاقتصاد الأوسع في وقت لاحق من العام.
كما أن كثيراً من الشركات تريّثت في رفع الأسعار في انتظار اتضاح مدى استمرارية الرسوم الجمركية. لكن خبراء يحذّرون من أنه بمجرد استقرار السياسة التجارية والتوصل إلى اتفاقيات، ستسارع الشركات إلى تمرير التكاليف الإضافية إلى المستهلك.
لهذا السبب، لا تزال توقعات كثير من المؤسسات الاقتصادية دون تغيير جوهري، رغم الانتقادات. فقد خفّض بنك «غولدمان ساكس» بشكل تدريجي توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025، من 2.4% في بداية العام إلى 1.1% في أواخر يوليو تموز.
ويختتم موريس أوبستفيلد، من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، قائلاً: «الاقتصاد، ظاهرياً، يبدو صامداً، لكنه يحتوي على نقاط ضعف وتوترات كامنة تحت السطح... وقد تتفاقم هذه التحديات في الأرباع المقبلة».