ترامب ينسحب من الوساطة: نتنياهو في الزاوية وخيارات إسرائيل تستنفد
في مشهد مسرحي مبتذل، خرج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بتصريحات صاخبة أعلن فيها فشل المفاوضات بشأن الحرب في غزة، وسحب الوساطة الأمريكية رسميًا، ملقيًا باللوم على حركة حماس، ومخاطبًا إسرائيل بعبارات تحريضية: "عليكم أن تُكملوا المهمة وتذهبوا حتى النهاية”. وعلى الرغم من الطابع الاستعراضي لهذا التصريح، فإن مضمونه يشي بتطور بالغ الأهمية: أمريكا رفعت الغطاء عن إسرائيل، ونتنياهو بات في الزاوية، وحيدًا في مواجهة مشهد سياسي وأمني معقد لم يعد يحتمل المناورة.
من دعم مطلق إلى تخلٍ مقنّع
خطاب ترامب، وإن بدا وكأنه يمنح إسرائيل الضوء الأخضر للاستمرار في حربها على غزة، إلا أنه في عمقه السياسي يُعدّ انسحابًا ذكيًا من مسؤولية الفشل. فالولايات المتحدة، التي قادت الوساطة عبر عدة قنوات، تُدرك جيدًا أن آلة الحرب الإسرائيلية لم تحقق أيًا من أهدافها المعلنة أو الخفية، وأن الاستمرار في دعم حرب بلا أفق سياسي سيُكلفها مزيدًا من العزلة الأخلاقية والدبلوماسية.
في هذا السياق، فإن تصريح ترامب – سواء بوعي منه أو لا – لم يضغط على المقاومة بقدر ما وضع نتنياهو أمام استحقاق لا مفر منه: لقد فعلت كل ما تريد، والآن عليك أن تواجه النتائج وحدك.
الاعتراف الإسرائيلي بالفشل
ما يجعل هذا التحول الأمريكي أكثر وقعًا هو تزامنه مع اعترافات صريحة من داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. فقد قال رونين مانليس، المتحدث السابق باسم الجيش الإسرائيلي والمدير العام لوزارة الشؤون الاستراتيجية، في تعليقه على تعثر المفاوضات:
"جرّبنا كل شيء… المسار التتابعي، المسار المتوازي، مع مساعدات إنسانية وبدونها، مع ميناء وبدونه، مع استراتيجية وبدونها، مع أهداف علنية وخفية — فما هو الجدول الزمني للمضي قدمًا؟”
هذا التصريح ليس مجرد شكوى من ضبابية الرؤية، بل هو اعتراف صريح بانعدام الخيارات. إسرائيل التي لطالما تباهت بتعدد البدائل الاستراتيجية، تبدو اليوم عارية سياسيًا وعسكريًا. لقد جُرّبت كل السيناريوهات، ولم يتبقَ سوى الانفجار في وجه أصحاب القرار.
نتنياهو بلا غطاء.. وبلا خطة
في ظل هذا الواقع، يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه في مأزق وجودي. فبعد أن استنزف كل أدوات الضغط والبطش، وأدار ظهره لكل المبادرات السياسية، عاد إلى ترامب ليطلب طوق نجاة، فإذا بالأخير يرفع يده عنه ويتركه يغرق.
اليوم، لا يستطيع نتنياهو:
• إعلان النصر، لأنه لا وجود لنصر واضح.
• الانسحاب، لأنه سيُفسر كهزيمة مذلة.
• الاستمرار، لأنه بات من دون دعم دولي حقيقي.
هكذا أُغلقت عليه الدوائر، وأصبح رهينة لسياسة صنعها بنفسه.
صمود المقاومة.. وصمود المفاوض
وسط هذه المعادلة المختلة، تبرز نقطة محورية لا تقل أهمية عن العمل العسكري: صمود المفاوض الفلسطيني. فكما يصمد المقاوم في الميدان، يجب أن يصمد من يتولى إدارة المعركة السياسية، لأنه وحده القادر على ترجمة التضحيات إلى مكاسب سياسية حقيقية، تضمن وقف العدوان، وفتح المعابر، وإعادة الإعمار، وتحقيق ما يشبه النصر الأخلاقي والسياسي.
الرهان الآن ليس فقط على من يصمد أكثر، بل على من يمتلك النفس الطويل في مواجهة الابتزاز الدولي.
الدم يتحدى السيف
لقد تجاوزت الحرب في غزة حدود المعركة التقليدية، ودخلت في مرحلة كسر الإرادة السياسية. وها هي إسرائيل، رغم تفوقها العسكري، تفقد زمام المبادرة لأول مرة، لا بفضل الجيوش، بل بفعل شعب جائع، مشرد، منكوب، لكنّه لا يقبل أن يُهزم.
إن ما يحدث اليوم هو إعادة صياغة للمعادلة التاريخية: لم تعد القوة المجردة قادرة على صناعة الانتصار، بل الإرادة، والوعي، والقدرة على التحمّل، هي ما يحكم مستقبل هذه المواجهة.
خاتمة
في نهاية المطاف، فإن تصريحات ترامب التي فُهمت على أنها تصعيد، قد تكون إعلانًا غير مباشر بانسحاب واشنطن من ملف فقدت السيطرة عليه. أما نتنياهو، الذي ظن أن بإمكانه ابتلاع غزة بالحديد والنار، فقد وجد نفسه عالقًا في مستنقع سياسي وعسكري، لا مفر منه، ولا ظهير له.
لقد قال الجنرالات كلمتهم، ورفعت أمريكا يدها، ولم يبقَ لإسرائيل إلا مواجهة الحقيقة: هذه معركة لا يمكن كسبها بالقوة وحدها