اخبار البلد
استقالة رئيس الحكومة الأردني عون الخصاونة كانت مفاجئة؛ مكانا وزمانا وظروفا وملابسات، لذلك كانت الصدمة بحجم هذه المفاجأة، أذهلت الجميع، ولكنها أذهلت مؤسسة الحكم أكثر.
عظم الصدمة فتحت الأبواب، وجاءت مع عمق الأزمة التي تعيشها البلاد، منذ تفجّرت حراكات المتقاعدين والمعلمين وعمال المياومة في الأيام الأولى لحكومة البزنس والتوريث قبل نحو سنتين، وتزامنت لاحقا وتجذّرت مع الربيع العربي الذي هو في الأساس ثورات أسقطت أنظمة، أو ربيع وطني يخصّ كل دولة حسب معطياتها.
لا أرغب هنا التعليق على دوافع وملابسات الاستقالة، ولا بالعودة إلى فترة ولايته، ولا إلى الكيفية والحدية والانفعالية، فقد أشبعت وتناولها الكثيرون، وكانت بين شد وجذب، ناهيك بأنني لست ممّن ينتقدون الحكومات بعد ذهابها، وكلماتي هذه هي الأولى بعد استقالة حكومة عون، رغم انتقادي الشديد لها اثناء وجودها في الحكم،
لكن الملفت الجديد في الأمر ما يلي:
* أنّ من طالب برحيل الحكومة ومارس أشد الانتقاد بحق رئيسها عاد ودافع عنه بعد الاستقالة!
* أنّه ورغم أنّ الرئيس خسر شعبيته بالكامل في أعقاب تمريره اعتقال أحرار الطفيلة والرابع، وكذلك تبنّيه قانون انتخاب رفضه الجميع وظهر الرئيس مدافعا عنه، وكذلك دفاعه عن الفوسفات، وحوارات وتعيينات و و..، إلاّ أنّ كل ذلك تم تناسيه أمام الطريقة والكيفية التي قدّم بها استقالته!
* كذلك ورغم أنّه انتصر لنفسه وكرامته، دون الحوادث السابقة، وجاءت استقالته المباشرة على هذا النحو، إلاّ أنّ الحادثة سُجِّلت له وليس عليه!
* حاولت أن أجد تفسيرا معمّقا يحلل ذلك، فلم أجد إلاّ أمرا واحدا، وجدته مقنعا يتمثّل في حجم الاحتقان الكبير حد الغليان، تجاه منظومة الفقر والبطالة والتهميش والفساد وقضاياه المتداولة، التي أصبحت على لسان الجميع، لحدّ أنّ العقل الباطن الجمعي على استعداد للالتفاف حول أيّ صاحب موقف جريء وكبير(حتى وإن كان مقصّرا) يفسح لهم المجال للانطلاق والتعبير ومحاربة الفساد والإصلاح.
* بالطبع لو جاءت استقالة عون على خلفية أخرى، وقبل خسارته الشعبية، لكان موقف غير مسبوق، وتضاعف صداه، ولعظمت مفاعيله وتداعياته بشكل لا يمكن توقعه.
* ومع كل ذلك، فإنّ أعراض الصدمة ما زالت قائمة، وعادة ما تظهر التداعيات والنتائج بعد زوال الآثار الأولى للصدمة، وبعد أن يتفاعل العقل بالتمحيص والتدقيق والوقوف على بواطن الحال، ولماذا آلت الأحوال إلى هذا النحو.
* تضخيم النتائج لن يضيف جديدا، فالناس بوعيهم الجمعي الباطن قادرون على وضع الحادثة في مكانها، ولكن أيضا تقزيم دلالات ما جرى وأخذ الأمور بسطحية وبساطة دون تعمُّق في خلفيات ما سيكون قد نفاجأ بأحداث أكبر وأعمق يصعب ضبطها وتداركها.
* ومِن هنا أتساءل:
- هل حكومة مؤقتة لاستكمال التشريعات الناظمة كفيلة بالخروج من المأزق والأزمة؟!
- وهل هذا كاف لامتصاص الصدمة واحتواء الأزمة وما يُحتمل أن يكون؟!
- إذا كانت الحكومة المؤقتة تعني محدودية الزمن، فنحن أمام حكومات متوالية منذ نحو سنتين، هي مؤقتة بهذا المفهوم!
- وإذا كان المقصود بالمؤقتة أيضا إنجاز تشريعات محددة، أو مهمات محددة، فنحن أيضا كنّا أمام حكومات متتالية مرّت علينا كانت مهمتها على هذا النحو!
وممّا سبق كله نخلص إلى ما يلي:
1- إنّ غياب الرؤية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواضحة، والشمولية المتكاملة، التي تراعي الأبعاد المستجدة، محليا وإقليميا ودوليا لمستقبل الأردن، والمشكلات القائمة والمستقبلية، سوف يراكم الأزمات ويعمّق التخبُّط ويوصلنا إلى الحائط أو المجهول الذي لن ينفع معه الترقيع أو الندم مستقبلا.
2- لقد أصبح الفساد وملفاته حجر الرحى للباطن الشعبي، وعلى لسان الطفل قبل الكبير، والبسيط قبل المتعلم، ورجل الشارع قبل السياسي، ولا يمكن احتواؤه، ولا يمكن الالتفاف عليه بأيّ حال من الأحوال، بل إنّ الاحتواء والالتفاف بمثابة تعميق وتأجيج للاحتقان.
3- إنّ بؤرة الأزمة وفاعلية الحراك تتمثّل في الفقر والبطالة والتهميش والغربة والشعور الوطني وعدم العدالة في التنمية للأرياف والبوادي والمحافظات.
4- لن ينفعنا الإسراع بقانون الانتخاب ما دام لا يحظى بالقبول من قبل القوى الفاعلة في المجتمع والتي هي المحرّك للشارع وقواه، وما دمنا غير قادرين على صياغة مثل هكذا قانون يحظى بالقبول، فلماذا الإسراع في إقراره، أليس هذا إعادة إنتاج مضاعف للأزمة والحراك؟!
5- إنّ الإصلاح السياسي الذي تستقر به النفوس وتهدأ مدرك ومعروف للجميع، ولا يحتاج إلى مزيد من حوارات أصبحت منفّرة في أعين الكثيرين، ولن تنفع الإطالة والتمديد، وكسب الوقت أو الرهان عليه، فهو مؤجج ومثوّر للنفوس، وإن بدا الحال في الظاهر مستقر.
6- إنّ فلسطين والقدس وبيت المقدس، رغم أنّه الاستحقاق الغائب عن شعارات الحراكات حاليا، إلاّ أنّه والله ومن مشاهداتي أنّه الاستحقاق الأكثر حضورا في النفوس والأعماق الآن، ولم يعد أماني وتأملات وقصص للأطفال، بل أصبح مشعلا ومشتعلا وبرنامجا يوميا في نفوس الفلسطينيين أغلبهم، وخصوصا الشتات، ولم يعودوا يلتفون كثيرا إلى مقولات الإلهاء والإشغال والضحك على الذقون، عن وطنهم بالألقاب والمناصب والأزياء و"هيلامات البعض عليهم" بمثل "سوالف الحقوق الناقصة والمنقوصة" التي باطنها الفتنة وتأجيج المقابل عليهم، ناهيك أنّها مقتل القضية ومطلب الغرب والصهاينة، وظاهرها الحرص على الفلسطينيين كسبا لتعاطفهم واستغلالهم لاحقا. لقد أدركوا الحقائق وبواطن الأمور، لا سيما مع تلاشي "حلف السلام أو الاعتدال" وثورة الشعوب ونمو الشعور الوطني الإسلامي، وصعود الإسلاميين (بمختلف برامجهم) الكاسح الذين يرون بوصلتهم وعمق إستراتيجيتهم وذروة سناهم في القدس وفلسطين، فهل أدرك البعض هذا الاستحقاق وتداعياته، وما سوف تؤول إليه الأحوال، أم أنّهم ما زالوا على تقديرات الموقف القديمة، ومحل استخفافهم حتى تداهمهم الأحداث وهم لا يعلمون؟!
7- وأخيراً، إنّ الاستمرار بعقلية التشكيل التراثي السائد للحكومات، من أبناء الثلاثية وأحفادهم، الذي يسميها البعض "ثلاثية القهر"؛ البزنس والتوريث ووادي عربة، وتكرارهم حتى أصبح البعض ماركة مسجلة على كل حكومة، يزيد الطين بلة، بل ويجعلها في دوامة وتأزيم دائم لا يمكن الخروج منه.
قبل نحو عشر سنوات أو أكثر، كتبت كلمات ما زالت أمام ناظري في مدونتي تقفز إلى ذاكرتي عند كل حكومة تُشكَّل، وأقول في نفسي ما الجديد؟! إذا كانت الألف باء ما زلنا نلحن بها، ونراوح مكانها، فكيف بنا سنفك الخط، أو نضع الرؤى ونتقدّم إلى الأمام، ونحقق الإصلاح ومحاربة الفساد، ومعالجة الفقر والبطالة والتهميش؟!
نعم هذه هي الكلمات فما الذي تغيّر؟!
إن لم تكن من أبناء البزنس والتوريث ووادي عربة فالتهميش مثواك.
ثلاثية إن لم تكن منها حُطّ راسك ونم عميقا وتفسح بأحلامك.
لك أن تكون "كوك ميل" أو"اكسبرس" تحت الأمر ولكل شيء، إلاّ السلطة والمال والألقاب حكر للثلاثية ومن جاء من أصلابهم، فليس لك إلاّ التمتُّع بالتبريك والتسحيج والتحليل والهجيني.
رعاك الله، ضاق الصدر بنا فلم نعد نرى إلاّ السراب هاديا ودليلا.