اخبار البلد_د. لبيب قمحاوي_ وأخيراً وقعت الواقعة وانفجر الجرح الذي كان ينزف بصمت. وكالعادة انقلبت
الأمور وأصبح الجلاد هو الضحية والضحية هي الجلاد. واستعمل الحكم سيف
الإعلام الحكومي وشبه الحكومي في حملة محمومة للنيل من الحكومة الأردنية
المستقيلة التي، بالرغم من حسناتها أو سيئاتها، قضت نحبها مظلومة مقهورة.
إن الاستهتار الكامل من قبل الإعلام الرسمي الأردني بذكاء المواطن من خلال
تلك الحملة الشرسة لقلب الحقائق والبكاء على أطلال الإصلاح الموجود حالياً
في غرفة العناية الفائقة، واتهام حكومة ضعيفة لا حول لها ولا قوة أمام
جبروت مؤسسات النظام التي عاثت فساداً في مسيرة الإصلاح وقوانينها،
واتهامها بأنها المسؤولة عن بطئ وضعف مسيرة الإصلاح، هو أمر يدعو للدهشة
وكأن الشعب لا يفهم ولا يعرف الحقيقة على مرارتها.
هنالك فرق بين
القفز إلى الخلف وبين الاستدارة إلى الخلف ومن ثم المضي إلى الأمام. الحالة
الأولى هي خطوة منفردة أما الحالة الثانية فهي سياسة متكاملة مرسومة عن
سبق إصرار وترصد. وهذا ما نحن فيه الآن وهذا ما سنشاهده في الحقبة المقبلة.
إنها ليست رِدَّةٌ عن شيء بل ارتداد كامل عن كل شيء وهرولة إلى الخلف
ابتعاداً عن جوهر مطالب الإصلاح وأهدافها. وحقيقة ما نحن بصدده الآن يعكس
نية الحكم المبيتة وتصميمه الأكيد على اختزال الرؤيا الشعبية للإصلاح في
قرارات كيدية تعكس رؤيا الحكم تحديداً لما يجب أن يكون عليه الإصلاح وحدود
ذلك الإصلاح وما هو المسموح وما هو الممنوع.
ينتاب النظام وقوى الشد
العكسي في الأردن شعوراً بنشوة النصر وهم على وشك كسب الجولة ودفع الحراك
الشعبي بكل مكوناته إلى السقوط في فخ الخيارات المستحيلة. فهذا الشعب
الممزق بين رغبته في المحافظة على الاستقرار واستمرارية النظام ضمن برنامج
متكامل من الإصلاح ومحاربة الفساد، قد تم وضعه أمام خيارين لا ثالث لهما
وإن كان ذلك يتم بشكل خفي مستتر. إما الاستقرار والاستمرارية مع إصلاح رمزي
محدود، أو إصلاح حقيقي بدون استقرار وبدون ضمان للاستمرارية . ومن أجل
ذلك، تم تفعيل كافة فزاعات الدولة وقوى الشد العكسي لإخافة المواطن من
المجهول سواء أكان ذلك المجهول دينياً طائفياً أو عرقياً إقليمياً.
وتفاقمت الأمور إلى الحد الذي حدا ببعض رموز قوى الشد العكسي للإيحاء بأن
الاستمرار في مطالب الإصلاح سيؤدي عملياً إلى تسليم الحكم إلى الحركة
الإسلامية. وافتقرت الحركة الإسلامية إلى الذكاء والمرونة المطلوبة للخروج
بضمانات عملية تطمئن كافة فئات الشعب الأردني خصوصاً وأن ما يجري في دول
الجوار يضاعف الشكوك بنوايا الحركات الإسلامية وبرامجها الاجتماعية. ومرة
أخرى، وقع العديد من المواطنين في فخ الخيارات الصعبة، وكل ذلك لصالح
النظام بالطبع.
النظام كسب الجولة ليس بالحسم بل بمنع الحسم لصالح قوى
الإصلاح ومحاربة الفساد. وقد تم ذلك من خلال التلاعب بقوانين الإصلاح سواء
من المنبع مثل قوانين الإصلاح الدستوري الصادرة عن لجنة ملكية معادية في
معظمها للإصلاح الدستوري، أو بالمراوغة وكسب الوقت مثل لجنة الحوار الوطني
أو من خلال مجلس النواب سواء بالترغيب أو بالترهيب وأخيراً بالإنهاك
والاستنزاف للسلطة التنفيذية كما جرى لحكومة عون الخصاونة. وكل هذا لم يتم
بمعزل عن التزامات وتفاهمات خارجية أعطاها الحكم في الأردن لضمان الاستمرار
في عملية إصلاح مبهمة وإجراء الانتخابات النيابية قبل نهاية هذا العام .
وقد ساهمت هذه التفاهمات في توفير دعم أمريكي أوروبي خليجي للأردن وبرنامجه
الإصلاحي مما ساعد في إطلاق يد الحكم في محاولة لإعادة تفسير مفهوم
الإصلاح وأهدافه، والإدعاء بأن الاستمرار في المطالبة بمحاربة الفساد هي
بمثابة هجوم على الاستقرار وعلى مبدأ الاقتصاد الحر الهادف لجذب
المستثمرين. وهكذا، نجح النظام في الحصول على دعم دولي لبرنامجه الإصلاحي
المقزم مما أدى أيضاً إلى إخراج موضوع الفساد المحرج له بشكل خاص من معادلة
الإصلاح، وهو أمر قد بدأنا نعيش بداياته من خلال إغلاق مجلس النواب
المشكوك في شرعيته لملفات فساد كبيرة وخطيرة مثل الفوسفات والكازينو وسكن
كريم. ولن يقف النظام عند أي حد إلى أن يتم إغلاق كافة ملفات الفساد وبشكل
نهائي وطي هذا الموضوع وسحبه من التداول.
وقد نجح النظام مؤخراً في
الحصول على فتوى من المجلس العالي لتفسير الدستور مفادها عدم جواز قيام
مجلس النواب بإعادة فتح أي ملف تم التصويت عليه حتى لو قامت الجهات
القضائية بإعلام لمجلس النواب بتوفر أدلة جديدة في ملف تم التصويت على
إغلاقه مثل الكازينو تستوجب إحالة بعض المسؤولين الذين قام البرلمان
بتبرئتهم إلى القضاء. وهكذا تكتمل الحلقة حيث يوجد الآن فتوى مسبقة الصنع
بمنع إعادة فتح أي ملف فساد قام البرلمان بالتصويت على إغلاقه حتى لو توفرت
أدلة جديدة دامغة. كلام عجيب لوضع أعجب.
المرحلة المقبلة سوف تشهد
جهوداً رسمية أردنية متزايدة لاجترار مطالب الإصلاح الشعبية وإعادة إنتاجها
بشكل يناسب الحكم . عندها سيقوم الأردن الرسمي بتبني حركة الإصلاح
باعتبارها سياسة الملك وليس إرادة الشعب. وسيتم إعادة تعريف مفهوم الإصلاح
ووضع سقف جديد له، وعندما يتم ذلك سيصبح الحكم هو بطل الإصلاح وليس الشعب
أو الحراك الشعبي. وسوف يتم تصنيف أي دعوة شعبية للإصلاح الحقيقي باعتبارها
دعوة إلى الفوضى يجب التصدي لها بحزم وبيد من حديد. وسيتم العمل على تسويق
ذلك داخلياً وخارجياً على اعتبار أن استقرار الأردن أمر حيوي لكل الأطراف
الإقليمية والدولية خصوصاً تلك التي ترى استقرار الأردن من مستلزمات الأمن
القومي الإسرائيلي . وهكذا فإن اختطاف الإصلاح وإعادة إنتاج مطالبه بما
ينسجم مع السياق العام للتفكير الرسمي الأردني ورؤيته لما يجب أن تكون عليه
الأمور هو برنامج عمل الحكم للمرحلة المقبلة.
سيناريو رهيب لا يقدر
عليه إلا أصحاب الفكر الشيطاني. سيناريو يهدف إلى سرقة آمال الشعب وإعادة
إنتاجها بشكل ممسوخ ثم إعادة بيعها إلى الشعب باعتبارها الرؤيا القادمة من
النظام إلى الشعب وليس من الشعب إلى النظام. إن نجاح الحكم الأردني في هذا
المسعى سوف يؤدي إلى قلب المعادلة بشكل يمكّن النظام من الإدعاء بأنه أكثر
إصراراً على المضي في برنامج الإصلاح من الشعب نفسه، ولكن أي إصلاح؟ وأي
برنامج؟.
إن فرض مثل هذا المسار على الأردنيين سيؤدي إلى ردود فعل شديدة
خصوصاً في أوساط الشباب مما قد يفاقم الأمور ويعطي النظام العذر للجوء
إلى استعمال أساليب أكثر قسوة وأكثر عنفاً تحت ستار الحفاظ على الأمن
والاستقرار. وهذا قد يتطلب من الحكم أن يدفع مجلس النواب الحالي والحكومة
الجديدة إلى الإسراع بإنجاز كافة القوانين وتشكيل كافة الهيئات مثل الهيئة
المستقلة للانتخابات والمحكمة الدستورية بطريقة مريحة للنظام ومنسجمة مع
رؤيته ومن ثم إلهاء الشارع بالانتخابات والتي قد تخرج بمجلس نواب يمكن
للنظام التعايش معه في ظل قانون الانتخابات المقترح. إذاً هي لعبة القط
والفار ومن يستطيع أن يحسم الأمور أولاًَ. هي لعبة تهدف إلى إعادة تأكيد
النهج الذي كان سائداً في أوساط الحكم في الأردن قبل الربيع الإصلاحي
الأردني. إن سحب البساط الإصلاحي من الحراك الشعبي ووضعه تحت أقدام الحكم
يهدف إلى إعادة تكريس السلطة المطلقة للحكم واستعمال الإصلاح المقزم
والمختطف من قلب الشعب غطاء للحكم وتكريساً لشرعية الهيمنة على السلطات
الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية خلافاً لأحكام الدستور.
إذاً
نعود الآن إلى معركة البدايات حيث لم يعد من الجائز الافتراض أننا في مرحلة
النهايات. فالنظام قد حزم أمره وانتقل بوضوح إلى المرحلة الجديدة ونحن
نشهد بداياتها وعلينا أن نتعامل مع هذا الواقع وأدواته ورؤيته الجديدة
بوضوح وتصميم على عدم السماح للنظام بالتلاعب بمطالب الشعب وطموحاته في
الإصلاح ومكافحة الفساد.
ترى هل من المقدر أن تصبح قوى الإصلاح وقوى
الحراك الشعبي هي قوى الشد العكسي للمشروع الجديد للنظام والذي يهدف إلى
احتواء الإصلاح وتطويعه ليصبح جزءاً من الرؤيا الرسمية الهادفة إلى تطويع
الشعب واحتواء آماله وطموحاته في الإصلاح ومكافحة الفساد؟ ترى هل يستطيع
النظام أن يفرض على القوى المحافظة وقوى الإصلاح تبادل الأدوار؟ ترى هل
رجعت حليمة لعادتها القديمة؟